للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا الصِّنف مِن النَّاس خرَج حِينما صارَ للمُسلمين قوَّة وعزَّة، لكن في مكَّة قبلَ الهِجرة ليسَ هناكَ مُنافق، فالنَّاس إمَّا مُؤمن صَريحٌ وإمَّا كافِر صريحٌ، لكن لمَّا قَوِيت شَوْكة المؤمنين وخصوصًا بعد أنْ هُزم الكفار في بَدر -وقد كانَت في السَّنة الثَّانية مِن الِهجرة في رَمَضان-، فلمَّا هُزم المُشركون بدَأ النِّفاق؛ لأنَّهم -أي: المنافِقين- عرَفوا أنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- سيَظهر دِينه، فصارُوا يُظهرُون الإِسلام ويُبطنون الكُفر.

وأنزَل اللَّهُ فِيهم سُورة كامِلة من طِوال المُفصَّل، وهِي قولُه تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فكانُوا يَحضُرون الصَّلاةَ، لكنَّهم إذا قامُوا إلى الصَّلاة قامُوا كُسالَى، ويَتصدَّقون لكنْ رياءً وسُمعةً، ويأتُون إلى الرسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ويقولون: نَشهد إنَّك لرسول اللَّه. سبحان اللَّه! فقال اللَّه فيهم: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: ١] أي: لكاذِبون في قولهِم: (نَشهَد)؛ لأنَّهم يقولون بأفواهِهم ما ليسَ في قلوبِهم.

ولذَلِك إذا احتاجُوا إلى هذه الكَلِمة عجَزوا عَنها، فإنَّ المنافق إذا دُفن في قَبره وتولَّى عنه أصحابُه أتاه مَلَكان يَسألانه: مَن ربك، ومَا دِينك، ومَن نبيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدْرِي، سَمعت الناسَ يقولون شيئًا فقُلتُه! فيقول: لا أدري؛ لأنه ليسَ في قلبِه إيمانٌ، والآخِرة مبنيَّة على السَّرائر لا على الظَّواهر، أما الدُّنيا فمَبنية على الظَّواهر، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حِين استُؤذن في قَتل المنافقين، قال: "لَا يتحدَّث الناسُ أنَّ محمدًا يَقتُل أصْحابَه"، وفي الآخِرة العِبرة بالسَّرائر: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: ٩ - ١٠]، {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: ٨ - ٩] اللهم طهِّر سرائرِنَا يا ربَّ العالمين، وأمِتنا على الإيمان والتَّوحيد.

<<  <   >  >>