ونوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنبياءُ آخَرون من أُولي العَزْم، ولكنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بدَأَ بآخِر واحِد منهم وأَوَّل واحِد، فبدَأ بالطرَفين، ثُم جاء بالوسَط {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}.
ونوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هو أوَّلُ رسول أَرسَله اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى أهل الأرض؛ لأن الصحيح أن آدَمَ نبيٌّ، لكنه ليس برَسولٍ، فأوَّلُ الرُّسُل نوح عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كما قال اللَّه تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}، وقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}، وفي حديث الشَّفاعة الطويلِ: أن الناس يَأتون إلى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ويَقولون: أنت أوَّلُ رسول بعثَه اللَّه تعالى إلى أهل الأرض (١).
وليس نُوحٌ أَفضَلَ من إبراهيمَ ولا من مُوسى عَليهِمَا السَّلَامُ، لكن -كما قُلت- قدَّمه؛ ليَتلاقَى الطرَفان الآخِرُ والأوَّلُ، وقدَّم محُمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لأن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أشرَفُ الرُّسُل.
والترتيب: بالنِّسبة لإبراهيمَ ومُوسى وعِيسى الثلاثة رُتِّبوا بالزمَن والفَضْل، وأمَّا نُوحٌ ومُحمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- فبَدَأ بالطرَف الأخير، لأنه أشرَفُ، ثُمَّ بالطرَف الأوَّل.
قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إبراهيم ولم يَذكُر أباه، ومُوسى ولم يَذكُر أباه، وعِيسى وذكَر أُمَّه؛ لبَيان الآية والمُعجِزة في عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّه خُلِق من أُمٍّ بلا أَبٍ، وخُلِقت حوَّاءُ من أبٍ بلا أُمٍّ، وخُلِق آدَمُ من غير أُمٍّ ولا أبٍ، وخُلِق الناس من أبٍ وأُمٍّ، نعَم، كل هذا يُستَدَلُّ به على أن الطبيعة لا شأنَّ لها في التَّكوين والخَلْق، وإلَّا لكانت على وَتيرة واحِدة.
(١) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، رقم (٣٣٤٠)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنَّةَ منزلة فيها، رقم (١٩٤)، من حديث أبي هريرة.