للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال الحافظ: "والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري (١) من حديث ابن عباس بسند صحيح، قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئاً"" (٢).

قلت: قول ابن عباس لا يدل على أكثر من أن التسريح يراد به التطليق، وهو أمر مسلم به إذ لا ذكر للآية في أثره، ولا يلزم منه كون المراد بالتسريح في الآية التطليق، ومرسل أبي رزين ضعيف للإِرسال فإن ثبت فهو القول ولا قول لأحد بعد قوله صلى الله عليه وسلم، ويحمل الطلاق في قوله-عز وجل-: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} على أنه التسريح في قوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ويكون المعنى: فإن سرحها التسريحة الثالثة فلا تحل له من بعده حتى تنكح زوجاً غيره، وإن لم يثبت فالقولان محتملان.

والراجح -والله أعلم- هو قول السدي والضحاك، وذلك لوجوه أربعة، ذكرها الرازي في تفسيره (٣):

أحدها: أن الفاء في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله: فإن طلقها طلقة رابعة وذلك لا يجوز.

والثاني: أنه في حال حمل التسريح في الآية على ترك المراجعة في العدة تكون الآية متناولة لجميع الأحوال؛ لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: ٢٢٩] أو لا يراجعها وهو المراد بقوله: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] أو يطلقها الثالثة وهو المراد بقوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: ٢٣٠].

والثالث: أن ظاهر لفظ التسريح يدل على الإرسال والإهمال مما يدل على أن حمل التسريح في الآية على عدم المراجعة أولى من حمله على التطليق.

والرابع: أنه قال بعد ذكر التسريح: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: ٢٢٩] والمراد به الحلغ، ولا يصح الخلع بعد الطلقة الثالثة.

قال الرازي بعد ذكره تلك الوجوه: "فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه" (٤).

قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: ٢٢٩]، أي: "لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما دفعتم إِليهن من المهور شيئاً ولو قليلاً" (٥).

قال الطبري: " ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن - لطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم" (٦).

قال الشوكاني: " وتنكير {شيئا} للتحقير أي شيئا نزرا فضلا عن الكثير وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك هو


(١) جامع البيان للطبري: ٤/ ٥٤٢ رقم: ٤٧٨٧، وهو عند ابن أبي حاتم في التفسير-القسم الثاني من سورة البقرة-: ٢/ ٧٥٥ رقم: ٢١٧٠، وذكره السيوطي في الدر المنثور: ١/ ٤٩٦ وزاد نسبته لابن المنذر.
(٢) الفتح: ٩/ ٢٧٨ - ٢٧٩.
(٣) انظر: مفاتيح الغيب: ٦/ ١٠٥.
(٤) مفاتيح الغيب: ٦/ ١٠٥. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي: ١/ ٢٦٣، التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام لابن أبي يعلى: ٢/ ١٥٧، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٣/ ١٢٧، المحرر الوجيز لابن عطية: ٢/ ١٩٨ - ١٩٩، معالم التنزيل للبغوي: ١/ ٢٧٠، أحكام القرآن لإلكيا الهراسي: ٢/ ٢٤٩، وغيرها.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ١٣١.
(٦) تفسير الطبري: ٤/ ٥٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>