للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أنها محكمة مخصوصة بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد (١).

والثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. قاله ابن عباس (٢)، والربيع (٣)، ومجاهد (٤).

وعلى هذا القول: "يكون: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ}، محمولاً على المسلمين، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}، محمولاً على الكافرين والمنافقين" (٥).

والرابع: ، وقال آخرون: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس لا يكون في الآخرة وإنما بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. وهذا قول عائشة (٦) رضي الله عنها.

قال الثعلبي: " يدلّ عليه قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: ١٢٣]، يعني في الدنيا" (٧).

وهذه الأقوال محل نظر؛ لأن التخصيص فيها بلا مخصص، والله أعلم.

والرابع: أن قوله-عز وجلِ-: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} منسوخ بقوله-عز وجل-: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (٨)، لأن الآية الأولى قررت أن العباد محاسبون بما أبدوه وأخفوه ويدخل في ذلك حديث النفس، والآية الثانية قررت أن التكليف لا يتجاوز الوسع والطاقة، وحديث النفس وخطراتها متجاوز لذلك. روي هذا القول عن ابن مسعود (٩)، وعائشة (١٠)، وابن عباس (١١)، والزهري (١٢)، وسعيد بن جبير (١٣)،


(١) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٨٩)، (٦٤٩٠)، و (٦٤٩١): ص ٦/ ١١٥، وابن ابي حاتم (٣٠٥٩): ص ٢/ ٥٧٣.
(٢) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٨١)، و (٦٤٨٢)، و (٦٤٨٥)، و (٦٤٨٦): ص ٦/ ١١٣ - ١١٥.
(٣) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٨٧): ص ٦/ ١١٥، وابن أبي حاتم (٣٠٦٥): ص ٢/ ٥٧٤ - ٥٧٥.
(٤) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٨٩)، و (٦٤٩٠)، و (٦٤٩١): ص ٦/ ١١٤.
(٥) النكت والعيون: ١/ ٣٦١.
(٦) أخرجه الطبري (٦٤٩٢)، و (٦٤٩٣)، (٦٤٩٤)، و (٦٤٩٥): ص ٦/ ١١٧، وابن أبي حاتم (٣٠٦٢): ص ٢/ ٥٧٤.
(٧) تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٠١.
(٨) ومن الأخبار التي وردت في النسخ:
الأول: أنها نسخت بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة، قال: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما أقَر بها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره" [رواه أحمد في المسند (٢٠٧١): ص ١/ ١٣٣، صحيح مسلم: (١٢٥): ص ١/ ١١٦، والطبري (٦٤٥٧): ص ٦/ ١٠٤].
والثاني: أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء "، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} قال أبو كريب: فقرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال فقال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: قال: قد فعلت {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت". [أخرجه الطبري (٦٤٥٧): ص ٦/ ١٠٥].
(٩) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٧٠): ص ٦/ ١١٠ - ١١١.
(١٠) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٨٠): ص ٦/ ١١٢.
(١١) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٥٨)، و (٦٤٥٩)، (و ٦٤٦٠)، و (٦٤٦١)، و (٦٤٦٢): ص ٦/ ١٠٥ - ١٠٨.
(١٢) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٦٠): ص ٦/ ١٠٦.
(١٣) أنظر: تفسير الطبري (٦٤٦٣)، و (٦٤٦٤): ص ٦/ ١٠٩ - ١١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>