للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال البغوي: " أي: عدلا، والسديد: العدل، والصواب من القول، وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لولده" (١).

قال السعدي: " أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم" (٢).

قال سعيد بن جبير: " يقولوا للميت إذا جلسوا إليه قولا سديدا (٣).

وثبت في الصحيحين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا". قال: فالشطر؟ قال: "لا". قال: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" (٤).

وفي الصحيح أن ابن عباس قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث، والثلث كثير» " (٥).

قال ابن كثير: " قال الفقهاء: إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي الثلث في وصيته وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث" (٦).

قال أبو السعود: " أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى إذ لانفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان بقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولاودهم بالشفقة وحسن الأدب أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة ويذكره التوبة وكلمة الشهادة أو لحاضري القسمة عذرا ووعدا حسنا أو يقولوا في الوصية مالا يؤدي إلى تجاوز الثلث" (٧).

وقد اختلف أهل العلم في تفسير الآية {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: ٩]، على أربعة أقوال:

أحدها: أن معناه: وليحذر الذين يحضرون مَّيتاً يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده، كما لو كان هو الموصي لآثر أن يبقة ماله لولده، وهذا قول ابن عباس (٨)، وقتادة (٩)، ومجاهد (١٠)، والسدي (١١)، وسعيد بن جبير (١٢).

والثاني: أن معناه وليحذر الذين يحضرون الميت وهو يوصي أن ينهوه عن الوصية لأقربائه، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقرباء الموصى لآثروا أن يوصي لهم، وهو قول مقسم (١٣)، وسليمان بن المعتمر (١٤).

والثالث: أن ذلك أمر من الله تعالى لِوُلاةِ الأيتام، أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، كما يحبون أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم في الإحسان إليهم لو ماتوا وترموا أولادهم يتامى صغاراً، وهو مروي عن ابن عباس (١٥).

والرابع: أن من خشي على ذريته من بعده، وأحب أن يكف الله عنهم الأذى بعد موته، فليتقوا الله وليقولا قولاً سديداً، وهو قول أبي بشر بن الديلمي (١٦).

والراجح أن المعنى: " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم العَيْلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليُتم والمسكنة، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العَيْلة عليهم بعدهم، مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب، فليأمروا من حضروه وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية، وما اختاره للموصين من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته" (١٧).

وبذلك يمكن القول بأن في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال:

أحدهما: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وهو على وجهين:

الأول: أن المعنى: وليخش الذين يحضرون موصيا بوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ما له فيمن لا يرثه فيفرقه ويترك ورثته. وهذا قول ابن عباس (١٨)، وقتادة (١٩)، ومجاهد (٢٠)، والسدي (٢١)، وسعيد بن جبير (٢٢).

والثاني: على الضد، وهو أنه نهي لحاضري الموصي عند الموت أن يمنعوه عن الوصية لأقاربه، وأن يأمروه الاقتصار على ولده، وهو قول مقسم (٢٣)، وسليمان بن المعتمر (٢٤).

القول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، راجع إلى قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا}، فقال تعالى: - يعني أولياء اليتامى - {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله} فيمن ولوه من اليتامى وليحسنوا إليهم في أنفسهم وأموالهم كما يحبون أن يحسن ولاة أولادهم لو ماتوا هم إليهم. وهذا ايضا مروي عن ابن عباس بسند ضعيف (٢٥).

والقول الثالث: أنه خطاب للأوصياء بإجراء الوصية على ما رسم الموصي وأن يكون الوجوه التي فيها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ١٨٢]، فأمر بهذه الآية إذا وجد الوصي من الموصي في الوصية جنفا أو ميلا عن الحق فعليه الإصلاح في ذلك، واستعمال قضية الشرع ورفع الحال الواقع في الوصية. ذكره علي بن عبيد الله وغيره (٢٦).

قال ابن الجوزي: " وعلى هذا القول تكون الآية منسوخة، وعلى الأقوال قبلها هي محكمة، والنسخ منها بعيد، لأنه إذا أوصى بجور لم يجز أن يجري على ما أوصى" (٢٧).

ويجدر القول بان أصحاب أمهات كتب النسخ المتقدمة كابن حزم الأنصاري والنحاس ومكي بن أبي طالب فلم يتعرضوا لدعوى النسخ في هذه الآية أصلا، إنما ذكرها من المنسوخة، هبة الله في ناسخه (٢٨)، وابن هلال في ناسخه المخطوط (٢٩) بدون استناد إلى دليل.

الفوائد:

١ - على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم.

٢ - أنه إذا حضر الرجل عند الوصية فليس ينبغي أن يقال: أوص بمالك، فإن الله رازق ولدك، ولكن يقال له: قدم لنفسك، واترك لولدك، فذلك القول السديد، كأن الذي يأمر بهذا يخاف على نفسه العيلة (٣٠).


(١) تفسير البغوي: ٢/ ١٧١.
(٢) تفسير السعدي: ١٦٥.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٨٧٥): ص ٣/ ٨٧٧.
(٤) صحيح البخاري برقم (٢٧٤٢)، وصحيح مسلم برقم (١٦٢٨).
(٥) صحيح البخاري برقم (٢٧٤٣) وصحيح مسلم برقم (١٦٢٩).
(٦) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٢٢.
(٧) تفسير أبي السعود: ٢/ ١٤٨.
(٨) انظر: تفسير الطبري (٨٧٠٧)، و (٨٧٠٨): ص ٨/ ١٩ - ٢٠.
(٩) انظر: تفسير الطبري (٨٧٠٩): ص ٨/ ٢٠.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٥): ص ٨/ ٢١ - ٢٢.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٨٧١١): ص ٨/ ٢٠ - ٢١.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٣)، و (٨٧١٤): ص ٨/ ٢١.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٦)، و (٨٧١٧): ص ٨/ ٢٢.
(١٤) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٨): ص ٨/ ٢٢ - ٢٣.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٩): ص ٨/ ٢٤.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (٨٧٢٠): ص ٨/ ٢٤.
(١٧) تفسير الطبري: ٨/ ٢٥.
(١٨) انظر: تفسير الطبري (٨٧٠٧)، و (٨٧٠٨): ص ٨/ ١٩ - ٢٠.
(١٩) انظر: تفسير الطبري (٨٧٠٩): ص ٨/ ٢٠.
(٢٠) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٥): ص ٨/ ٢١ - ٢٢.
(٢١) انظر: تفسير الطبري (٨٧١١): ص ٨/ ٢٠ - ٢١.
(٢٢) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٣)، و (٨٧١٤): ص ٨/ ٢١.
(٢٣) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٦)، و (٨٧١٧): ص ٨/ ٢٢.
(٢٤) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٨): ص ٨/ ٢٢ - ٢٣.
(٢٥) انظر: تفسير الطبري (٨٧١٩): ص ٨/ ٢٤.
(٢٦) انظر: نواسخ القرآن، ابن الجوزي: ٢/ ٣٥١.
(٢٧) نواسخ القرآن: ٢/ ٣٥١.
(٢٨) انظر الناسخ والمنسوخ: ٣٢.
(٢٩) انظر: المخطوط: ورقة ٢٢.
(٣٠) انظر: تفسير الماتريدي: ٣/ ٨٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>