للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو السعود: " عبّر عنه [أي القرآن] بالموصول، تشريفا له بما في حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عز وجل، وقوله: {مصدقا لما معكم}، أي: من التوراة، فعبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعة إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» (١) " (٢).

قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: ٤٧]، أي: " من قبل أن نأخذكم بسوء صنيعكم، فنمحو الوجوه ونحولها قِبَلَ الظهور" (٣).

قال القاسمي: " أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم" (٤).

قال ابن عباس: " طمسها: أن تعمى" (٥).

قال أبو عبيدة: " أي: نسوها حتى تكون كأقفائهم، يقال للريح: طمست آثارنا، أي: محتها، وطمس الكتاب " (٦).

قال أبو دريس عائذ الله الخولاني: "كان أبو مسلم معلم كعب، وكان يلومه على إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعثه إليه لينظر أهو هو؟ قال: حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها}، فبادرت الماء اغتسل وأني لأمس وجهي مخافة أن يطمس ثم أسلمت" (٧).

وقال سهل: " أي: يحول الله عن الهدى والبصيرة إلى طبع الجهالة (٨).

قال المراغي: " أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار: أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة" (٩).

وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: ٤٧]، اقوال:

أحدهما: أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى، وهو قول ابن عباس (١٠)، وقتادة (١١)، وعطية العوفي (١٢)، وأبي عبيدة (١٣).

قال ابن كثير: " وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس ٨، ٩] إن هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى" (١٤).


(١) الحديث: " لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني". أخرجه أحمد (١٤٦٨٥): ص ٣/ ٣٣٨، وفي (١٥٢٢٣): ص ٣/ ٣٨٧، والدارمي (٤٣٥).
(٢) تفسير أبي السعود: ٢/ ١٨٥.
(٣) التفسير الميسر: ٨٦.
(٤) محاسن التأويل: ٣/ ١٤٣.
(٥) أخرجه ابن ابي حاتم (٥٤١٢): ص ٣/ ٩٦٨.
(٦) أخرجه ابن المنذر (١٨٥٠): ص ٢/ ٧٣٧.
(٧) أخرجه ابن ابي حاتم (٥٤١٣): ص ٣/ ٩٦٩.
(٨) اتفسير التستري: ٥٤.
(٩) تفسير المراغي: ٥/ ٥٦.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (٩٧١٣): ص ٨/ ٤٤٠.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٩٧١٦): ص ٨/ ٤٤١.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (٩٧١٤)، و (٩٧١٥): ص ٨/ ٤٤١.
(١٣) انظر: تفسير ابن المنذر (١٨٥٠): ص ٢/ ٧٣٧.
(١٤) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>