للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي في ضلالها ذمّاً لها بأنها لا تصلح أبداً، وهذا قول الحسن (١)، والضحاك (٢)، ومجاهد (٣)، والسدي (٤)، وسهل التستري (٥).

قال الزجاج: " المعنى: قبل أن نضلهم مجازاة لما هم عليه من المعاندة، فنضلهم ضلالا لا يؤمنون معه أبدا" (٦).

والثالث: معناه: : من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها، وناحيتهم التي هم بها، {فنردها على أدبارها}، من حيث جاءوا منه بَديًّا من الشام. وهذا قول ابن زيد (٧).

والرابع: معناه: {من قبل أن نطمس وجوهًا}، فنمحو أثارها ونسوِّيها، {فنردها على أدبارها}، بأن نجعل الوجوه منابتَ الشَّعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم. فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم، فقد ردَّها على أدبارها، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه. حكاه الطبري عن البعض (٨).

والراجح-والله أعلم- ان المعنى: " من قبل أن نطمس أبصارَها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء، {فنردها على أدبارها}، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقْفاءً والأقفَاء وجوهًا، فيمشون القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية، لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهودَ الذين وصف صفتهم بقوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة}، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} الآية، بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به. ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارًا" (٩).

قال أبو هلال السكري المعتزلي: " «الطمس»: أصله ذهاب الأثر؛ طريق طامس: لا علم فيه، كتاب مطموس: ممحو، وجبل طامس: لا طريق إليه؛ قال جميل (١٠):

ألا تلكمُ أعلامُ بثنةَ قد بدتْ ... كأنَّ ذَرَاها في السَّراب سَبيبُ

طوامسُ لي من دونهنَّ عداوةٌ ... ولي من وراءِ الطَّامساتِ حبيبُ

بعيدٌ على من ليسَ يطلبُ حاجةً ... وأمَّا على ذي حاجة فقريبُ

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: بمعنى القلب؛ قال اللَّه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، أي: نقلبها فنجعلها إلى ما يلي أدبارها، وقوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} تفسير لطمسها، وصديق هذا قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: ١٠]، لأن الوجوه إذا قلبت أقفاء كان أصحابها يعطون الكتب وراء ظهورهم.

الثاني: ذهاب البركات؛ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: ٨٨]، أي: اذهب ببركتها ونفعتها وخذهم بالقحط، {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، أي: حبب إليهم أوطانهم حتى لا يغار قومها لطلب الأرزاق فيموتوا هزلا وجوعا هكذا قِيل.

والصواب أن يقال: أراد أن صبرهم على البلاء والإقامة في البلد المطموس فيه على أموالهم حتى لا يجزعوا فيخرجوا منه. وذلك أن الشد على القلب والربط عليه هو تصبيره بما هو فيه.

وقوله: {فَلا يُؤمنُوا} موصول بقوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} ومعنى ذلك كله على العاقبة؛ كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: ٨].

الثالث: ذهاب النور؛ قال اللَّه: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} " (١١).


(١) انظر: تفسير الطبري (٩٧٢٠): ص ٨/ ٤٤٢.
(٢) انظر: تفسير الطبري (٩٧٢٢): ص ٨/ ٤٤٢.
(٣) انظر: تفسير الطبري (٩٧١٧) - (٩٧١٩): ص ٨/ ٤٤١.
(٤) انظر: تفسير الطبري (٩٧٢١): ص ٨/ ٤٤٢.
(٥) انظر: تفسير التستري: ٥٤.
(٦) معاني القرآن: ٢/ ٥٩.
(٧) انظر: تفسير الطبري (٩٧٢٣): ص ٨/ ٤٤٢.
(٨) انظر: تفسير الطبري: ٨/ ٤٤٢ - ٤٤٣.
(٩) تفسير الطبري: ٨/ ٤٤٣.
(١٠) انظر الابيات في الأشباه والنظائر للخالديين: ١/ ٩، والمصون في الادب: ١٧٥، وديوان المعاني ١/ ١٣، وسمط الىلي: ١/ ٧١٩، والحماسة المغريبية: ٢/ ٩١٩.
(١١) الوجوه والنظائر: ٣١٧ - ٣١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>