للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن أبي هريرة، قال: " قال لي عبد الله: أتدري كم عرض جلد الكافر؟ فقلت: لا، قال: هو أربعون ذراعا بذراع الخباز" (١).

وقال الضحاك: " تأخذ النار فتأكل جلودهم حتى تكشطها عن اللحم، حتى تفضي النار إلى العظام، ويبدلون جلودا غيرها، فيذيقهم الله شديد العذاب، فذلك دائم لهم أبدا، بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بآيات الله " (٢).

وقال ابن أبي زمنين: " قال يحيى: بلغنا أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد؛ فيصيح الفؤاد فلا يريد الله أن تأكل أفئدتهم؛ فإذا لم تجد شيئا تتعلق به منهم، خبت - أي: سكنت - ثم يعادون خلقا جديدا؛ فتأكلهم كلما أعيد خلقهم" (٣).

فإن قيل وكيف يجوز أن يُبدّلوا جلوداً غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يُبدَّلوا أجساماً، وأرواحاً، غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم الله في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار. وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة (٤):

أحدها: أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ.

والجواب الثاني: أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة غير محترقة.

والجواب الثالث: أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباساً، فسماها الله جلوداً، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها، وفي فنائها راحتها، وقد أخبر الله تعالى: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: ٥٦]، أي: " إن الله تعالى كان عزيزًا لا يمتنع عليه شيء، حكيمًا في تدبيره وقضائه" (٥).

قال الواحدي: أي"قوياً لا يغلبه شيء {حَكِيمًا} فيما دبَّر" (٦).

قال الزمخشري: " {عَزِيزًا}، لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، {حَكِيمًا}، لا يعذب إلا بعدل من يستحقه" (٧).

قال البيضاوي: أي: " غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، {حَكِيماً} فيما يفعل بالكافرين" (٨).

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: " {عَزِيزًا حَكِيمًا}، يقول: عزيزا في نقمته إذا انتقم" (٩). وروي عن قتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك (١٠).

قال محمد بن إسحاق: "العزيز في نصرته ممن كفر إذا شاء" (١١).

الفوائد:

١ - أن الآية تناولت صفة النار والترهيب منها وصفة أهلها.

٢ - أن الشرك بالله عبادة غير الله معه، وهو أعظمُ ذنب عُصي الله به، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وهو الذنب الذي يُخلَّد صاحبُه في النار أبد الآباد، ولا سبيل له للخروج منها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.


(١) أخرجه ابن المنذر (١٩١٢): ص ٢/ ٧٥٨ - ٧٥٩.
(٢) أخرجه ابن المنذر (١٩١٣): ص ٢/ ٧٥٩.
(٣) تفسير ابن أبي زمنين: ١/ ٣٨١.
(٤) انظر: تفسير الطبري: ٨/ ٤٨٥ - ٤٨٦، والنكت والعيون: ١/ ٤٩٨ - ٤٩٩.
(٥) التفسير الميسر: ٨٧.
(٦) الوجيز: ٢٦٩.
(٧) الكشاف: ١/ ٥٢٣.
(٨) تفسير البيضاوي: ١/ ٣٦٦.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (٥٤٩٨): ص ٣/ ٩٨٣.
(١٠) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٤٩٨): ص ٣/ ٩٨٣.
(١١) أخرجه ابن أبي حاتم (٥٤٩٨): ص ٣/ ٩٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>