للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال -رحمه الله-: "والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم أن الله ـ جل ثناؤه ـ جعلها حروفاً مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف لأنه ـ عز ذكره ـ أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد، .. والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله سائر المفسرين.

فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة على معان كثيرة مختلفة؟

قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة، كقولهم للجماعة من الناس: أمة، وللحين من الزمان: أمة، وللرجل المتعبد المطيع لله: أمة، وللدين والملة أمة.

وكقولهم للجزاء والقصاص: دِيْن، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دين؛ في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها مما يكون من الكلام بلفظ واحد وهو مشتمل على معان كثيرة.

وكذلك قول الله ـ جل ثناؤه ـ: (الم) و (المر) و (المص) وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دال على معان شتى شامل جميعها، من أسماء الله ـ عز وجل ـ وصفاته مما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم، وهن مع ذلك فواتح السور كما قاله من قال ذلك.

وليس كون ذلك من حروف أسماء الله ـ جل ثناؤه ـ وصفاته بمانعها أن تكون للسور فواتح، لأن الله ـ جل ثناؤه ـ قد افتتح كثيراً من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها وكثيراً منها بتمجيدها وتعظيمها، فغير مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.

فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم أحد معاني أوائلها أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن، وهن مما أقسم بهن، لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله ـ تعالى ذكره ـ وصفاته ـ على ما قدمنا البيان عنها ـ.

فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا مما بينا من وجوهه، لأن الله ـ جل ثناؤه ـ لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك دون سائر المعاني غيره لأبان ذلك لهم رسول الله إبانة غير مشكلة، إذ كان ـ جل ثناؤه ـ إنما أنزل كتابه على رسوله ليبين لهم ما اختلفوا فيه.

وفي تركه إبانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل، إذ لم يكن مستحيلاً في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة باللفظ الواحد في كلام واحد" (١).

وإن كانت هذه الأقوال مقبولة إلا أن ثمة أقوالاً أخرى هزيلة مردودة وجب ذكر بعضها للتنبيه عليها.

القول التاسع: ما رُوِي عن الربيع بن أنس أنه قال: هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم (٢).

وهذا يشبه ما ذكره القرطبي عن محمد بن علي الحكيم الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس (٣).

وهذا قول مردود، وتحميل لكلام الله ما لا يحتمل، إذ فيه ادعاء أن بعض آيات القرآن الكريم حكم الله ألا يعلمها إلا نبي أو ولي، فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم- قد مات فقد بقي الأولياء الذين هم المؤمنون، فكل مؤمن ولي لله، وأعلى المؤمنين منزلة وأقربهم إلى الله تعالى هم العلماء، وما قاله العلماء بعيد كل البعد عن هذا القول، وهذا القول بعيد كل البعد عما قاله العلماء.

ثم أي فائدة في أن تكون هذه الأحرف دالة على مدة قوم وآجالهم، ومدد الأقوام وآجالهم غيب لم يطلع الله أحداً من خلقه عليه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: ٣٤].


(١) جامع البيان ١/ ٧٢ و ٧٣، وانظر معاني القرآن للنحاس ١/ ٧٦
(٢) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير ١/ ٦٨ وابن أبي حاتم ١/ ٣٣.
(٣) انظر تفسير القرطبي ١/ ١٥٦

<<  <  ج: ص:  >  >>