للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه من الأصحاب المنقول إلينا جيلا بعد جيل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر .. وبهذا بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] " (١).

كما ودلت على هذه التسمية نصوص الكتاب كقوله تعالى:

- {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)} [البقرة: ١ - ٢].

- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)} [الكهف: ١].

- {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)} [الشورى: ١٧].

- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: ٧] (٢).

قال الطاهر بن عاشور-رحمه الله-: " وفي هذه التسمية -أي بالكتاب - معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف" (٣)، كما وأن أسلوب القرآن في استخدام كلمة (الكتاب)، تحددها السياق الذي وردت فيه الكلمة (٤).

والخطاب في قوله تعالى: {ذلك}، لكل مخاطب يصح أن يوجه إليه الخطاب؛ والمعنى: ذلك أيها الإنسان المخاطَب (٥)، وقد اختلف في ذلك (الغائب) على عدة أقوال (٦):

أحدها: يعني التوراة والإنجيل، ليكون إخباراً عن ماضٍ.

ومن ثم اختلفوا في المخاطب به على قولين (٧):


(١) النبأ العظيم، د. محمد دراز: ١٢.
(٢) يراد بكلمة الكتاب في المرة الأولى (القرآن الكريم)، لأنه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله محمد -عليه السلام-.
(٣) التحرير والتنوير: ١/ ٧٣.
(٤) نذكر منها على سبيل المثال:
- الكتاب أي (التوراة):
ومن ذلك قوله تعالى: "وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (البقرة: ٥٣).
- الكتاب أي (أسفار العهدين القديم والجديد)
ومن ذلك قوله تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران: ١٩).
فقوله: "الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ" معناه الذين أوتوا الأسفار الدينية من يهود ونصارى.
ومنه قوله تعالى لأهل الكتاب: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (البقرة: ٤٤).
فالكتاب هنا مراد به الأسفار الدينية التي يؤمنون بها، وهي أسفار العهد القديم المتكون من ٣٩ كتابا، وأسفار العهد الجديد المتكون من ٢٧ كتابا.
- الكتاب أي الوحي المنزل على الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم-عليهما السلام-:
وذلك في قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ? فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد: ٢٦).
- الكتاب أي كتب (أهل الكتاب):
قال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة: ٤٨).
ولا يخفى بأن ما قبْل القرآن من الكتاب هو كتب أهل الكتاب، من كتب قديمة يؤمن بها اليهود، وكتب جديدة يؤمن بها المسيحيون مع إيمانهم بالكتب القديمة. قال ابن عاشور (ت ١٩٧٣ م): "والكتاب الأول القرآن، فتعريفه للعهد. والكتاب الثاني جنس يشمل الكتب المتقدمة، فتعريفه للجنس" (التحرير والتنوير: ٦/ ٢٢١.)، فهيمنة القرآن على الكتاب معناها أنه مهيمن على الكتب الدينية السابقة.
- الكتاب أي (العدة)
ووردت كلمة (الكتاب) في القرآن مرادا بها العِدَّة، وهو استخدام مجازي بإطلاق الكتاب وإرادة العِدَّة المذكورة فيه، وذلك في قوله تعالى: "وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" (البقرة: ٢٣٥).
فبلوغ الكتاب أجله معناه بلوغ العِدَّة المكتوبةِ أجلَها. وعدة المتوفى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أيام.
الكتاب أي (مجموع الواجبات)
قد وردت كلمة (الكتاب) بمعنى مجموع ما كتبه الله على عباده من الواجبات والمحرمات، وهو استخدام مجازي بإطلاق الكتاب وإرادة المكتوب فيه، ومن ذلك قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (الجمعة: ٢).
(٥) أنظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٢٥.
(٦) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٦٧، والمحرر الوجيز: ١/ ٨٣، وتفسير القرطبي: ١/ ١٥٦ وما بعدها بتصرف بسيط.
(٧) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>