للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد وردتْ مادة (يَقِنَ) في القرآن الكريم في عِشرين آية باشتقاقات مختلِفة، موزَّعة على أرْبعَ عشرةَ سورة (١).

قال ابن عثيمين: " وإنما نص على الإيقان بالآخرة مع دخوله في الإيمان بالغيب لأهميته؛ لأن الإيمان بها يحمل على فعل المأمور، وترك المحظور؛ و "الإيقان" هو الإيمان الذي لا يتطرق إليه شك" (٢).

وقوله تعالى: {اليوم الآخر}، هو يوم القيامة، و"الآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، والموجب للعمل" (٣).

وفي تسميتها بـ (اليوم الآخر)، أقوال:

أحدها: لأنه اليوم الذي لا يوم بعده (٤)، قال الطبري: قال أبو جعفرٍ: أمّا الآخرة، فإنّها صفةٌ للدّار، كما قال جلّ ثناؤه: {وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وإنّما وصفت بذلك لمصيرها آخرةً لأولى كانت قبلها كما تقول للرّجل: أنعمت عليك مرّةً بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة. وإنّما صارت الآخرة آخرةً للأولى، لتقدّم الأولى أمامها، فكذلك الدّار الآخرة سمّيت آخرةً لتقدّم الدّار الأولى أمامها، فصارت التّالية لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سمّيت آخرةً لتأخّرها عن الخلق، كما سمّيت الدّنيا دنيا لدنوّها من الخلق" (٥).

والثاني: وقيل لتأخرها من الناس، قَالَ النحَّاسُ (ت: ٣٣٨ هـ: ("ثم قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} سميت "آخرة" لأنها بعد "أولى"، وقيل: لتأخرها من الناس، وجمعها (أواخر) " (٦).

والثالث: وقيل لأنها بعد الدنيا، قالَ ابن كثير (ت: ٧٧٤ هـ: ("وإنّما سمّيت الآخرة لأنّها بعد الدّنيا" (٧).

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله.

٢ - ومنها: أن من أوصاف المتقين الإيقان بالآخرة على ما سبق بيانه في التفسير.

٣ - ومنها: أهمية الإيمان بالآخرة؛ لأن الإيمان بها هو الذي يبعث على العمل؛ ولهذا يقرن الله تعالى دائماً الإيمان به عزّ وجلّ، وباليوم الآخر؛ أما من لم يؤمن بالآخرة فليس لديه باعث على العمل؛ إنما يعمل لدنياه فقط: يعتدي ما دام يرى أن ذلك مصلحة في دنياه: يسرق مثلاً؛ يتمتع بشهوته؛ يكذب؛ يغش .. ؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة؛ فالإيمان بالآخرة حقيقة هو الباعث على العمل.

٤ - قال أهل العلم: و"اليقين ينتظم منه أمران: علم القلب وعمل القلب، فإن العبد قد يعلم علما جازما بأمر ومع هذا فيكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم كعلم العبد أن الله رب كل شيء ومليكه ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك، إما لغفلة القلب عن هذا العلم والغفلة هي ضد العلم التام وإن لم يكن ضدا لأصل العلم، وأما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك" (٨).

وهذا اليقين يحصل بثلاثة أشياء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-:

أحدها: تدبر القرآن الكريم.


(١) أنظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد صدقي العطار، (حرف الياء).
وعند التأمُّل في هذه الآيات نجد أنَّ مفهوم (اليقين) يختلِف معناه باختلاف مَظانِّه داخلَ النسق القرآني، فجاء اللفظ بمعنى:
اولا: لعِلم الجازم الذي لا يَقبل التشكيك؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: ٩٥]، وقال أيضًا: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: ٥١].
ثانيا: اليقين: الموت؛ قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩].
(٢) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٣١.
(٣) تفسير السعدي: ١/ ٣٧.
(٤) انظر: تفسير الطبري: ١/ ٢٤٥.
(٥) انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.
(٦) معاني القرآن: ١/ ٨٥.
(٧) تفسير ابن كثير: ١/ ١٧٠ - ١٧١.
(٨) مجموع الفتاوى: ٣/ ٣٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>