للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال البغوي: " أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم" (١).

قال الصابوني: أي: "ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم" (٢).

قال ابن عثيمن: "أي ما يشعر هؤلاء أن خداعهم على أنفسهم مع أنهم يباشرونه؛ ولكن لا يُحِسُّون به، كما تقول: "مَرَّ بي فلان ولم أشعر به" (٣).

يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم - شِعرًا وشعورًا. ومنه قول الشاعر (٤):

عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا: حَبَّذَا الوَضَحُ

يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم (٥).

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: مكر المنافقين، وأنهم أهل مكر، وخديعة؛ لقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم}؛ ولهذا قال الله تعالى في سورة المنافقين: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: ٤]؛ فحصر العداوة فيهم؛ لأنهم مخادعون.

٢ - ومنها: التحفظ من المنافقين؛ لأنه إذا قيل لك: "فلان يخدع" فإنك تزداد تحفظاً منها؛ وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظاً حذراً، فلا ينخدع بمثل هؤلاء.

فإن قال قائل: كيف نعرف المنافق حتى نكون حذرين منه؟

فالجواب: نعرفه بأن نتتبع أقواله، وأفعاله: هل هي متطابقة، أو متناقضة؟ فإذا علمنا أن هذا الرجل يتملق لنا، ويظهر أنه يحب الإسلام، ويحب الدين، لكن إذا غاب عنا نسمع عنه بتأكد أنه يحارب الدين عرفنا أنه منافق؛ فيجب علينا أن نحذر منه.

٣ - ومن فوائد الآية: أن المكر السيئ لا يحيق إلّا بأهله؛ فهم يخادعون الله، ويظنون أنهم قد نجحوا، أو غلبوا؛ ولكن في الحقيقة أن الخداع عائد عليهم؛ لقوله تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم}: فالحصر هنا يدل على أن خداعهم هذا لا يضر الله تعالى شيئاً، ولا رسوله، ولا المؤمنين.

٤ - ومنها: أن العمل السيئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة؛ لقوله تعالى: {وما يشعرون} أي ما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم؛ و "الشعور" أخص من العلم؛ فهو العلم بأمور دقيقة خفية؛ ولهذا قيل: إنه مأخوذ من الشَّعر؛ والشعر دقيق؛ فهؤلاء الذين يخادعون الله، والرسول، والمؤمنين لو أنهم تأملوا حق التأمل لعرفوا أنهم يخدعون أنفسهم، لكن لا شعور عندهم في ذلك؛ لأن الله تعالى قد أعمى بصائرهم. والعياذ بالله.، فلا يشعرون بهذا الأمر.

القرآن

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)} [البقرة: ١٠]

التفسير:

في قلوبهم شكٌّ وفساد فابْتُلوا بالمعاصي الموجبة لعقوبتهم، فزادهم الله شكًا، ولهم عقوبة موجعة بسبب كذبهم ونفاقهم.

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: ١٠]، أي: في قلوبهم: "شك ونفاق" (٦).


(١) تفسير البغوي: ١/ ٦٦.
(٢) صفوة التفاسير: ١/ ٢٩.
(٣) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٤٠.
(٤) الشعر للمتنخل الهذلي، ديوان الهذليين ٢: ٣١، وأمالي القالي ١: ٢٤٨، وسمط اللآلئ ٥٦٣. عقى بالسهم: رمى به في السماء لا يريد به شيئًا، وأصله في الثأر والدية، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم قبول الدية. فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء، فإن عاد مضرجًا بدم، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية. وإن رجع كما صعد، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية. وكل ذلك أبطل الإسلام. وفاء واستفاء: رجع. والوضح: اللبن. يهجوهم بالذلة والدناءة، فأهدروا دم قتيلهم، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم، وقالوا في أنفسهم: اللبن أحب إلينا من القود وأنفع.
(٥) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٢٧٧ - ٢٧٨.
(٦) تفسير الثعلبي: ١/ ١٥٤، وانظر: تفسير البغوي: ١/ ٦٦، وانظر: صفوة التفاسير: ١/ ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>