للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الزمخشري: "فان قلت: عم كانوا يخادعون؟

قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم - لاختلاطهم بهم - على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها" (١).

والخداع في اللغة فهو: "الإخفاء، جاء في معجم الأفعال: "أخدعت الشيء: أخفيته، ومنه المخدع: وهي الخزانة، والأخدعان: العرقان في العنق لخفائهما" (٢).

وقال صاحب اللسان: " الخدع: إظهار خلاف ما تخفيه .. ، وخديعة وخدعة أي: أراد به المكروه وختله من حيث لا يعلم" (٣).

وفي الاصطلاح ": الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه" (٤).

وذكر الخداع في القرآن الكريم في خمسة مواضع، في ثلاث سور، في ثلاث آيات، ومن الملاحظ أن هذه السور كلها مدنية، وفي هذا إشارة إلى ظهور النفاق وفشوه بعد الهجرة إلى المدينة المنور ة؛ لتحذير المسلمين من هذا الداء الخطير؛ ولتو هين كيد هؤلاء المنافقين، والتأكيد على أن مكرهم وخداعهم إلى البوار (٥).

والخداع يلتقي مع المكر في إضمار الشر والمكروه إذا كان من البشر، باستثناء الخداع في الحرب، فهو من باب: التخطيط والتدبير الجائز؛ لقوله عليه السلام في الحديث الذي رواه جابر بن عبد االله رضي االله عنهما: "الحرب خدْعة" (٦)، وهو من باب المقابلة والتدبير والجزاء، إذا كان من الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ١٤٢]، قال الشوكاني: ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادِع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظاهر بالإسلام في الدنيا فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخَّر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعِهم بالدرك الأسفل من النار" (٧).

قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} [البقرة: ٩]، "أي: وما يخدعون في الحقيقة إِلا أنفسهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم" (٨).

قال ابن عثيمين: " أي ما يخدع هؤلاء المنافقون إلا أنفسهم، حيث منَّوها الأماني الكاذبة" (٩).

وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (وما يخادعون) بالألف (١٠).

قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ}، أي: "وما يَدْرُون" (١١).


(١) الكشاف: ١/ ٥٨.
(٢) الأفعال، أبو القاسم علي بن جعفر السعدي (ت ٥١٥ هـ)، عالم الكتب، بيروت، ط ١، ١٩٨٣: ١/ ٢٨٦.
(٣) لسان العرب: ٨/ ٦٣.
(٤) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني: ١٤٣.
(٥) ومن الآيات التي ورد فيها الخداع، قوله تعالى:
- {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: ٦٢].
- {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ٩].
- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ١٤٢].
- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ١٤٢].
(٦) رواه البخاري في الجامع الصحيح المختصر (كتاب الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة): (٢٨٦٦): ٣/ ١١٠٢.
(٧) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني (١٢٥٠ هـ)، دار الفكر، بيروت: ١/ ٥٢٩.
(٨) صفوة التفاسير: ١/ ٢٩.
(٩) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٤٠.
(١٠) أنظر: محاسن التأويل: ١/ ٢٤٩.
(١١) تفسير الطبري: ١/ ٢٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>