للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: ٥٠].

٢ - مرض الشهوات (١)، وأما مرض الشهوات فقال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: ٣٢]، فهذا مرض شهوة الزنا، وقال عن مرض الشبهات: هو أصعبهما وأقتلهما للقلب.

وإن مرض الشبهات أخطر بكثير على العبد من مرض الشهوات لأنه قد يفضي إلى الكفر وليس من السهولة التوبة منه والتخلص من تأثيره، ولذلك كثير من أصحابه ينافحون ويعتقدون أنهم على صواب خلافا لمرض الشهوة الذي يدرك العبد غالبا أنه مبتلى به وتنفع معه المواعظ والتذكير وقد يتخلص منه، والواجب على المؤمن أن يشخص قلبه ويطهر قلبه ويغسل باطنه من جميع هذه الأمراض بزيادة الإيمان والإكثار من العمل الصالح وطلب الهداية وصدق التوجه والبعد عن مواطن الفتنة وصحبة أرباب القلوب السليمة وإغلاق أبواب الشرور والفتنة عن قلبه. ومرض الشبهات شفاؤه يكون بالعلم والحجة ومرض الشهوات شفاؤه يكون بالمواعظ والإيمانيات.

ولا يكاد أحد يسلم من عارض وخاطر سوء ولكن المؤمن الحق هو الذي يكثر من تعاطي الدواء ويجتهد في التزكية والإصلاح لقلبه ويجاهد نفسه في ذلك بحيث لا يستقر فيه المرض ولا يكون ملازما له ومن كان كذلك كان حريا لنجاته وسلامته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩]، وأما من أهمل قلبه وأعرض عن طلب الدواء عاقبه الله بالحرمان وزيادة المرض وأبعده عن روضة اليقين وساحة الرضا والاطمئنان.

وقوله تعالى: {يَكْذِبُونَ} [البقرة: ١٠]، فيه قراءتان:

القراءة الأولى: قرأ أهل الكوفة (٢) {يَكْذِبُونَ} بالتخفيف من الكذب، وهو أشبه بما قبله وبما بعده؛ لأن قبله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: ٨] وهذا كذب منهم، وبعده قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: ١٤] وهذا يدل على كذبهم في دعوى الإيمان" (٣). ورجح الطبري هذه القراءة (٤).

القراءة الثانية: {يُكْذِّبُونَ}، بضم الياء وتشديد الذال، رجحه مكي (٥)، قال الواحدي: "ومن شدد فلكثرة ما في القرآن مما يدل على التثقيل كقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [الأنعام: ٣٤] وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: ٣٩]، {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: ٤١] ونحوها من الآيات" (٦).


(١) وهو كل داء يشتمل على شهوة وهو على أنواع، منها:
(١) حب الرئاسة: بأن يفتن العبد بحب الرئاسة والقيادة وتستشرف نفسه لذلك فيهلك.
(٢) حب الشهرة: بأن يفتن العبد ويسعى بكل ما يملك في نيل الشهرة في الأعمال الخيرية.
(٣) حب الدنيا: بأن يفتن العبد بحب الدنيا وتكون همه ومبلغ علمه وغاية مراده.
(٤) فتنة النساء: بأن تستولي على القلب الفتنة بحب النساء والجنس ويوظف العبد كل طاقاته في هذا السبيل من غير وقوف عند حدود الشرع.
(٥) حب الصور: بأن يفتن العبد بحب الصور الجميلة وعشقها والهيام بها.
(٦) شهوة الكبر: بأن يصاب القلب بشهوة الترفع والتكبر على عباد الله.
(٧) شهوة الحسد: بأن يمتلأ القلب بمرض تمني زوال النعمة من الغير وحب التفوق على الآخرين في الدنيا.
(٨) شهوة الظلم: بأن يستلذ القلب ويستمتع بإيقاع الظلم بجميع صوره على الآخرين من سب وشتم وغيبة ونميمة وإفساد واستباحة للأموال المعصومة.
(٢) عاصم وحمزة والكسائي انظر "السبعة" لابن مجاهد ص ١٤٣، "الحجة" لأبي علي ١/ ٣٢٩، "الكشف" لمكي ١/ ٢٢٧، و"تفسير الطبري" ١/ ١٢١ - ١٢٣.
(٣) التفسير البسيط: ٢/ ١٥٤. قال الواحدي: " وأيضا فإن قوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} لا يخلو إما أن يراد به المنافقون، أو المشركون، أو الفريقان جميعاً. فإن أراد المنافقين فقد قال فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)} [المنافقون: ١]، وإن كانوا المشركين فقد قال: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: ٩٠ - ٩١]. وإن كانوا الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله (يكذبون) بالتخفيف". [وانظر: الحجة: ١/ ٣٣٧].
(٤) أنظر: تفسيره: ١/ ١٢٣.
(٥) انظر: الكشف: ١/ ٢٢٨.
(٦) التفسير البسيط: ٢/! ٥٥، وانظر: "الحجة" لأبي علي: ١/ ٣٣٧. وانظر "الكشف" لمكي: ١/ ٢٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>