للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثالث: وقيل: أريد به "اليهود، أي: قال لهم المؤمنون {لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآ، وقيل معناه لا تكفروا، والكفر أشد فسادا في الدين". حكاه البغوي (١).

والراجح-والله أعلم- أنها: "نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة، وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية: " ما جاء هؤلاء بعدُ "، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ" (٢).

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ} [البقرة: ١١]، " أي: وإِذا قال لهم بعض المؤمنين" (٣).

قال ابن عثيمين: " القائل هنا مبهم للعموم. أي ليعم أيَّ قائل كان" (٤).

قوله تعالى: {لا تُفْسِدُوا في الأَرضِ} [البقرة: ٢٢]، أي: " لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله" (٥).

وقوله تعالى: {فِي الْأَرْضِ} [البقرة: ١١]: المراد الأرض نفسها؛ أو أهلها؛ أو كلاهما. وهو الأولى؛ أما إفساد الأرض نفسها: فإن المعاصي سبب للقحط، ونزع البركات، وحلول الآفات في الثمار، وغيرها، كما قال تعالى عن آل فرعون لما عصوا رسوله موسى عليه السلام: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: ١٣٠]، فهذا فساد في الأرض، وأما الفساد في أهلها: فإن هؤلاء المنافقين يأتوا إلى اليهود، ويقولون لهم: {لئن أخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم} [الحشر: ١١]: فيزدادوا استعداءً للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة له؛ كذلك أيضاً من فسادهم في أهل الأرض: أنهم يعيشون بين المسلمين، ويأخذون أسرارهم، ويفشونها إلى أعدائهم؛ ومن فسادهم في أهل الأرض: أنهم يفتحون للناس باب الخيانة والتَقِيَّة، بحيث لا يكون الإنسان صريحاً واضحاً، وهذا من أخطر ما يكون في المجتمع (٦).

وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأَرضِ}، ثلاثة تأويلات (٧):

أحدها: أنه الكفر، والعمل بالمعصية. قاله أبو العالية (٨) والسدي (٩).

والثاني: فعل ما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر بحفظه، قال ابن عثيمين: " أن "الإفساد في الأرض" هو أن يسعى الإنسان فيها بالمعاصي، كما فسره بذلك السلف؛ لقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: ٤١] " (١٠)، لأنه "من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة" (١١).

والثالث: أنه موالاة الكفار.

قيل: أن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: ٧٣] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: ١٤٤] ثم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: ١٤٥] (١٢).

قال الماوردي: "وكل هذه الثلاثة، فساد في الأرض، لأن الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها" (١٣).

وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}، قال سلمان: لم يجئ أهل هذه الآية بعد" (١٤).

وفي قراءة قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: ١١]، وجهان (١٥):

أحدهما: قرأ الكسائي: (قيل) و (غيض) و (جيء) و (حيل) و (سيق) و (سيئت)، بروم أوائلهن الضم، ووافق ابن عامر في: (سيق) و (حيل) و (سيء) و (سيئت) - ووافق أهل المدينة في: (سيء) و (سيئت).

قال ابن خالويه: فالحجة لمن ضمّ أوله: " أنه بقّى على فعل ما لم يسمّ فاعله دليلا في الضم، لئلا يزول بناؤه. وقد قرأ بعض القراء ذلك بكسر بعض، وضمّ بعض فالحجة له في ذلك: ما قدّمناه من إتيانه باللغتين معا" (١٦).

والثاني: وقرأ الباقون: {قِيلَ}، وقرأ الباقون بكسر أوله.

قال ابن خالويه: فالحجة لمن كسر أوله: أنه استثقل الكسر على الواو التي كانت عين الفعل في الأصل، فنقلها إلى فاء الفعل بعد أن أزال حركة الفاء، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا: ميزان وميعاد" (١٧).

وهؤلاء جمعوا في قولهم: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١]، بين أمرين كبيرين: العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو صلاح، قلباً للحقائق وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً.

قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١]؛ "أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك" (١٨).

قال ابن عباس: " أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله: ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" (١٩).

وقوله تعالى: [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١]، يحتمل تأويلين (٢٠):

أحدهما: يظهرون أنهم مصلحون، كما أنهم يقولون: آمنا، وهم كاذبون. والثاني: أن الذي نحن عليه هو صلاح عند أنفسنا.

و(الأرض): الجرم المقابل للسماء، وجمعه أرضون، ولا تجيء مجموعة في القرآن ويعبر بها عن أسفل الشيء (٢١)، ويقال: أرض أريضة، أي: حسنة النبت (٢٢)، وتأرض النبت: تمكن على الأرض فكثر، وتأرض الجدي: إذا تناول نبت الأرض، والأرضة: الدودة التي تقع في الخشب من الأرض (٢٣).


(١) أنظر: تفسيره: ١/ ٦٦.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٢٨٨ - ٢٨٩.
(٣) صفوة التفاسير: ١/ ٣٠.
(٤) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٤٦.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ٣٠.
(٦) ينظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٥٠.
(٧) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٧٤.
(٨) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٢١): ص ١/ ٤٤ - ٤٥.
(٩) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٢٢): ص ١/ ٤٥.
(١٠) ينظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٤٩.
(١١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٨٠.
(١٢) تفسير ابن كثير: ١/ ١٨١.
(١٣) النكت والعيون: ١/ ٧٤.
(١٤) تفسير ابن أبي حاتم (١٢٣): ص ١/ ٤٥.
(١٥) أنظر: الحجة في القراءات السبع: ابن خالويه: ٦٩.
(١٦) الحجة في القراءات السبع: ٦٩.
(١٧) الحجة في القراءات السبع: ٦٩.
(١٨) صفوة التفاسير: ١/ ٣٠.
(١٩) أخرجه ابن أبي حاتم (١٢٤): ص ١/ ٤٥.
(٢٠) أنظر: التفسير البسيط: ٢/ ١٥٨، ومعاني القرآن للزجاج: ١/ ٥٢، وانظر "تفسير الطبري" ١/ ١٢٦ - ١٢٧، "زاد المسير" ١/ ٣٢، "تفسير البغوي" ١/ ٦٧.
(٢١) انظر: المجمل ٢/ ٩٢.
(٢٢) انظر: انظر: المجمل ١/ ٩٢؛ والعين ٧/ ٥٥.
(٢٣) اللسان (أرض): ٧/ ١١٣, والعين: ٧/ ٥٦. وانظر: مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، دار القلم، دمشق: ١/ ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>