للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (١).

وقوله تعالى: {طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: ١٥]، يعني في: "كفرهم وضلالهم" (٢).

قال ابن عباس: " في كفرهم يترددون" (٣). وروي عن ابن مسعود (٤) وقتادة (٥) والربيع (٦) وابن زيد (٧) مثل ذلك.

و(الطُّغيان)، أصله مجاوزة الحد، من قولك: طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا، إذا تجاوز في الأمر حده فبغى، ومنه قوله الله: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [سورة العلق: ٦، ٧]، أي يتجاوز حدّه، وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طَغَى} [طه: ٢٤] أي أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: ٢٤] (٨)، ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت (٩):

وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا ... بَعْدَ طُغْيَانِه، فَظَلَّ مُشِيرَا

وقوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} [البقرة: ١٥]، فيه ثلاثة أقوال (١٠):

أحدها: يترددون، قاله ابن عباس (١١)، ومجاهد (١٢)، والربيع (١٣)، ومنه قول ابن بري (١٤):

مَتى تَعْمَهْ إلى عُثْمانَ تَعْمَه ... إلى ضَخْم السُّرادِقِ والقِبابِ

أَي تُرَدِّدُ النظرَ.

والثاني: معناه يتحيرون، قاله ابن عباس (١٥)، ومنه قول رؤية بن العجاج (١٦):

ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه

والثالث: يعمهون عن رشدهم، فلا يبصرونه، لأن من عمه عن الشيء كمن كمه عنه، قال الأعشى (١٧):

أراني قد عمهت وشاب رأسي ... وهذا اللعب شين للكبير

والرابع: يتمادَوْن. قاله ابن عباس (١٨).

قال الثعلبي: {يعمهون}، أي: " يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين، يقال: عمه يعمه عمها وعموها، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائرا عن الحق" (١٩). ثم استشهد بقول رؤبة السابق.

الفوائد:


(١) ينظر: تفسير الطبري: ١/ ٣٠٧ - ٣٠٨.
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٢٠٨.
(٣) أخرجه الطبري (٣٦٦): ص ١/ ٣٠٩.
(٤) أخرجه الطبري (٣٦٧): ص ١/ ٣٠٩.
(٥) أخرجه الطبري (٣٦٨): ص ١/ ٣٠٩.
(٦) أخرجه الطبري (٣٦٩): ص ١/ ٣٠٩.
(٧) أخرجه الطبري (٣٧٠): ص ١/ ٣٠٩.
(٨) أنظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢٠٨.
(٩) ديوانه: ٣٤ مع اختلاف في الرواية. والضمير في قوله " ودعا الله " إلى فرعون حين أدركه الغرق. والهاء في قوله " طغيانه " إلى فرعون، أو إلى الماء لما طغا وأطبق عليه. وقوله " لات هنا "، كلمة تدور في كلامهم يريدون بها: " ليس هذا حين ذلك "، والتاء في قولهم " لات " صلة وصلت بها " لا "، أصلها " لا هنا " أي ليس هنا ما أردت، أي مضى حين ذلك. و " هنا " مفتوحة الهاء مشددة النون، مثل " هنا " مضمومة الهاء مخففة النون. وقوله: " مشيرًا "، أي مشيرًا بيده في دعاء ربه أن ينجيه من الغرق.
(١٠) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٧٩.
(١١) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٣): ص ١/ ٣١٠. ولفظه: " {يَعْمَهُونَ}، قال: يتردَّدون".
(١٢) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٥)، و (٣٧٦)، و (٣٧٧)، و (٣٧٨): ص ١/ ٣١١.
(١٣) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٩): ص ١/ ٣١١.
(١٤) البيت ورد في اللسان ١٨٩/ ١٠: مادة (ع م هـ).
(١٥) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٤): ص ١/ ٣١٠. ولفظه: " يَعْمَهُونَ ": المتلدِّد".
تلدد للرجل فهو متلدد: إذا لبث في مكانه حائرًا متبلدًا يتلفت يمينًا وشمالا.
(١٦) ديوانه ص ١٦٦ واللسان والتهذيب والصحاح: (عنه).
(١٧) البيت من شواهد الماوردي في النكت والعيون: ١/ ٧٩، والسيوطي في الإتقان: ١/ ١٧٤، والدر المنثور: ١/ ٨٠.
(١٨) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٢): ص ١/ ٣١٠.
(١٩) تفسير الثعلبي: ١/ ١٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>