للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والرابع: ما حكي: أنهم يُفْتَح لهم باب الجحيم، فيرون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة، بمقامع النيران، حتى يرجعوا، وهذا نوع من العذاب، وإن كان كالاستهزاء.

والخامس: : أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا، خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة، وكانوا فيه اغترار به، صار كالاستهزاء [بهم] (١).

وإلى هذا القول ذهب الطبري (٢) والسعدي (٣). وبنحو هذا المعنى روي الخبر عن ابن عباس، في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال: " يسخر منهم للنقمة منهم" (٤) (٥).

والراجح -والله أعلم- هو القول الأول، فسمى العقوبة باسم الذنب، هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم.

قوله عز وجل: {وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: ١٥]، أي: أن الله يبقيهم ضالين في طغيانهم" (٦).

قال القرطبي: " أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران: ١٧٨] " (٧).

وفي {َيَمُدُّهُمْ} [البقرة: ١٥]، ثلاثة أقوال:

أحدهما: يملي لهم، وهو قول ابن مسعود (٨)، والسدي (٩).

والثاني: يزيدهم، وهو قول مجاهد (١٠).

والثالث: وقيل: يَمُدُّ لَهُم " (١١).

والراجح هو ما قاله مجاهد، بأن معنى {وَيَمُدُّهُمْ}: يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة الأنعام: ١١٠]، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم، ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى " يَمُدُّ لهم "، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: " مدَّ النهرَ نهرٌ آخر "، بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل -


(١) ينظر: تفسير الطبري: ١/ ٣٠٢ - ٣٠٣. وتفسير ابن كثير: ١/ ١٨٣ - ١٨٤.
(٢) أنظر: تفسيره: ١/ ٣٠٤. يقول الطبري: " والصواب في ذلك أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه، ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر، لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك، وبنحو هذا المعنى روي الخبر عن ابن عباس، في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال: "يسخر بهم للنقمة منهم".
(٣) أنظر: تفسيره: ١/ ٤٣. يقول السعدي: " وهذا جزاء لهم، على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة، أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا، فإذا مشى المؤمنون بنورهم، طفئ نور المنافقين، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين، فما أعظم اليأس بعد الطمع، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} الآية".
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (١٤٣): ص ١/ ٤٨، والخبر ساقه ابن كثير في تفسيره: ١/ ٩٤، والسيوطي: ١/ ٣١، والشوكاني: ١/ ٣٣.
(٥) ينظر: تفسير الطبري: ١/ ٣٠٤.
(٦) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٥٤.
(٧) تفسير القرطبي: ١/ ٢٠٨.
(٨) أنظر: تفسير الطبري (٣٦٤): ص ١/ ٣٠٦ - ٣٠٧، والخبر ساقه ابن كثير ١/ ٣١، والسيوطي ١/ ٣١، والشوكاني ١/ ٣٣.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (١٤٤): ص ١/ ٤٨.
(١٠) أخرجه الطبري: (٣٦٥)، ص ١/ ٣٠٧، وابن أبي حاتم (١٤٥): ص ١/ ٤٨، والخبر ساقه ابن كثير ١/ ٣١، والسيوطي ١/ ٣١، والشوكاني ١/ ٣٣.
(١١) وهو قول بعض نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم، ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون: " قد مَددت له وأمددتُ له " في غير هذا المعنى، وهو قول الله تعالى ذكره: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) [سورة الطور: ٢٢]، وهذا من: " مددناهم ". قال: ويقال: قد " مَدَّ البحر فهو مادٌّ " و " أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ ". وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو " مدَدْت "، وما كان من الخير فهو " أمْدَدت ". ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو " مَدَدت له "، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: " أمْددت ". وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مَدَدت " بغير ألف، كما تقول: " مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيره "، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك: " أمدَّ الجرحُ "، لأن المدّة من غير الجرح، وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ. (تفسير الطبري: ١/ ٣٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>