للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

روي "عن ابن عباس: قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" (١). وفي رواية أخرى له: " إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم" (٢). وروي عن قتادة (٣) والربيع (٤) مثل ذلك.

الفوائد:

من فوائد الآية ذلّ المنافق؛ فالمنافق ذليل؛ لأنه خائن؛ فهم {إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} خوفاً من المؤمنين؛ و {إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} خوفاً منهم؛ فهم أذلاء عند هؤلاء، وهؤلاء؛ لأن كون الإنسان يتخذ من دينه تَقيَّة فهذا دليل على ذله؛ وهذا نوع من النفاق؛ لأنه تستر بما يُظَن أنه خير وهو شر

القرآن

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)} [البقرة: ١٥]

التفسير:

الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال، ويزيدهم -بطريق الإِمهال والترك -في ضلالهم وكفرهم وكذبهم يتخبطون ويتردّدون ويتحيرون (٥).

قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: ١٥]، " أي: الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال" (٦)

قال القرطبي: أي: الله "ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم" (٧).

قال الثعلبي: " أي يجازيهم جزاء استهزائهم" (٨).

وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: ١٥]، على وجوه (٩):

أحدها: معناه أنه يحاربهم على استهزائهم (١٠)، فسمي الجزاء باسم المجازى عليه، كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وليس الجزاء اعتداءً، قال عمرو بن كلثوم (١١):

أَلا لا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا

فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة (١٢).

والثاني: أن معناه أنه يجازيهم جزاء المستهزئين.

والثالث: أنه لما حسن أن يقال للمنافق: {ذُقْ إِنًّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: ٤٩]، صار القول كالاستهزاء به.


(١) أخرجه الطبري (٣٥٩): ص ١/ ٢٠٠.
(٢) أخرجه الطبري (٣٦٠): ص ١/ ٢٠٠، وابن أبي حاتم (١٤٢): ص ١/ ٤٨.
(٣) أخرجه الطبري (٣٦١): ص ١/ ٢٠٠، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: ١/ ٤٨.
(٤) أخرجه الطبري (٣٦٢): ص ١/ ٢٠٠، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: ١/ ٤٨.
(٥) ينظر: تفسير ابن كثير: ١/ ١٨٢.
(٦) صفوة التفاسير: ١/ ٣٠.
(٧) تفسير القرطبي: ١/ ٢٠٧.
(٨) تفسير الثعلبي: ١/ ١٥٧.
(٩) أنظر: النكت والعيون: ٧٧ - ٧٨.
(١٠) ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: ١٤٢]، وقوله {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: ٧٩] و {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠] وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: ١٩٤]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما، وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
(١١) المعلقات السبع للزوزني: ١٢٠.
(١٢) أنظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>