للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال السعدي: " أي: رغبوا في الضلالة، رغبة المشتري بالسلعة، التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة، وهذا من أحسن الأمثلة، فإنه جعل الضلالة، التي هي غاية الشر، كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم، فبئس التجارة، وبئس الصفقة صفقتهم، وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا، فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟ " فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة، واختار الشقاء على السعادة، ورغب في سافل الأمور عن عاليها" (١).

وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: ١٦]، على أربعة أوجه (٢):

أحدها: أنه على حقيقة الشراء فكأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. قاله ابن عباس (٣).

والثاني: أنه بمعنى استحبوا الكفر على الإيمان. قاله قتادة (٤).

إذ عّبر عنه بالشراء، لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه، فإما أن يكون على معنى شراء المعاوضة فعلاً، لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا، فيبيعوا إيمانهم.

وهؤلاء وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه {اشْتَرَوا} إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه (٥).

ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (٦):

فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا ... ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ

يعني بالمستراة: المختارة.

وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار (٧):

يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا ... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ

يعني بالشَّراة: المختارة.

وقال آخر في مثل ذلك (٨):

إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ ... وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ

وضعّف الطبري هذا القول، وذلك" لأن الله جل ثناؤه قال: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، فدل بذلك على أن معنى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض" (٩).

والثالث: أنه بمعنى أخذوا الكفر وتركوا الإيمان، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود (١٠)، واختاره الطبري (١١).


(١) تفسير السعدي: ١/ ٤٣.
(٢) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٧٩.
(٣) أنظر: تفسير الطبري (٣٨٠): ص ١/ ٣١٢.
(٤) أنظر: تفسير الطبري (٣٨٢): ص ١/ ٣١٢.
(٥) ينظر: تفسير الطبري: ١/ ٣١٣.
(٦) ديوانه: ٣٥، وطبقات فحول الشعراء: ٣٦، واللسان (سرا). وفي المطبوعة: " المشتراة " في الموضعين، والصواب ما أثبتناه. والكاعب: التي كعب ثديها، أي نهد، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة. وخدر الجارية: سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ، وأشاع المال بين القوم: فرقه فيهم. وأراد بالقمار: لعب الميسر، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور، يفرقه في الناس من كرمه.
(٧) ديوانه: ٦٢. والضمير في قوله " يذب " لفحل الإبل. ويذب: يدفع ويطرد. والقصايا، جمع قصية: وهي من الإبل رذالتها، ضعفت فتخلفت. وجماهير، جمع جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها، تراكم رملها وتعقد. والمدجنات، من قولهم " سحابة داجنة ومدجنة "، وهي: المطبقة الكثيفة المطر. والهواضب: التي دام مطرها وعظم قطرها. شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد
(٨) البيت ورد في تفسير الطبري: ١/ ٣١٤.
(٩) تفسير الطبري: ١/ ٣١٤ - ٣١٥.
(١٠) أنظر: تفسير الطبري (٣٨١): ص ١/ ٣١٢.
(١١) تفسير الطبري: ١/ ٣١٥. قال الطبري: " وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة البقرة: ١٠٨]؟ وذلك هو معنى الشراء، لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق، فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون".

<<  <  ج: ص:  >  >>