للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واختلف في الذين عُنُوا بهذه الآية، على قولين (١):

أحدهما: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب. قاله ابن عباس (٢)، وقتادة (٣).

وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل. قاله مجاهد (٤).

وقال ابن الأنباري: قوله: {وَأَنتُم تَعلَمُونَ}، لا تتنافى مع قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: ٦٤] لأن هذا العلم الذي وصفهم به في هذه الآية لا يزيل عنهم الجهل؛ لأنه أراد: وأنتم تعلمون أن الأنداد التي تعبدونها لم ترفع لكم السماء ولم تمهد تحتكم الأرض، ولم ترزقكم رزقا. فعبدة الأصنام وغيرهم يتساوى علمهم في هذا المعنى، وإنما وصفهم الله جل ذكره بهذا العلم لتتأكد الحجة عليهم إذا اشتغلوا بشىء يعلمون أن الحق فى سواه" (٥).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: بيان رحمة الله تعالى، وحكمته في جعل الأرض فراشاً؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال؛ لكن من رحمته، ولطفه، وإحسانه جعلها فراشاً.

٢ ومنها: جعْل السماء بناءً؛ وفائدتنا من جعل السماء بناءً أن نعلم بذلك قدرة الله عزّ وجلّ؛ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب نعلم أنها كبيرة جداً، وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: ٤٧).

٣ ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماء؛ لقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء}؛ لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا؛ والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة؛ وقصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا، فرفع (صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم أغثنا" (٦)، وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته.

٤ ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بإنزال المطر من السماء؛ وجه ذلك: لو كان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس؛ ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة. الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضاً: أنه ينزل رذاذاً. يعني قطرةً قطرةً؛ ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس.

٥ ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: (فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم).

٦ ومنها: أن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (فأخرج به).

٧ ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يضيف الشيء إلى سببه أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب، مثل لو أن أحداً من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه. أنقذه من الغرق؛ فليقل: أنقذني الله بفلان؛ وله أن يقول: أنقذني فلان؛ لأنه فعلاً أنقذه؛ وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان؛ وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله؛ ويدل لهذا. أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله مقروناً بالسبب. أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الغلام اليهودي للإسلام وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، فأسلم؛ لكنه أسلم بعد أن استشار أباه: التفت إليه ينظر إليه يستشيره؛ قال: "أطع أبا القاسم". أمر ولده أن يسلم، وهو لم يسلم في تلك الحال، أما بعد فلا ندري، والله أعلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار" (٧)، وهكذا ينبغي لنا إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى مقروناً ببيان السبب؛ وذلك؛ لأن السبب موصل فقط.


(١) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٣٧٠ - ٣٧١.
(٢) أنظر: تفسير الطبري (٤٨٦): ص ١/ ٣٧٠.
(٣) أنظر: تفسير الطبري (٤٨٧): ص ١/ ٣٧٠.
(٤) أنظر: تفسير الطبري (٤٨٨)، (٤٨٩)، و (٤٩٠): ص ١/ ٣٧١.
(٥) التفسير البسيط: ٢/ ٢٣١، وانظر: "تفسير ابن عطية" ١/ ١٩٩، وزاد المسير: ١/ ٤٩.
(٦) أخرجه البخاري ص ٧٩، أبواب الاستسقاء، باب ٧: الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، حديث رقم ١٠١٤؛ وأخرجه مسلم ص ٨١٧، كتاب صلاة الاستسقاء، باب ٢: الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم ٢٠٧٨ [٨] ٨٩٧.
(٧) أخرجه أبو داود ص ١٤٥٦، كتاب الجنائز، باب ٢: في عيادة الذمي، حديث رقم ٣٠٩٥؛ وأخرجه أحمد ٣/ ١٧٥، رقم ١٢٨٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>