للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٨. ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله، وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر: تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} [الحج: ٦٣]؛ وأما الفضل فبما يمن الله به من الثمرات؛ ولذلك قال تعالى: {رزقاً لكم}.

٩ ومنها: أن الله عزّ وجلّ منعم على الإنسان كافراً كان، أو مؤمناً؛ لقوله تعالى: {لكم}، وهو يخاطب في الأول الناس عموماً؛ لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة؛ وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا.

١٠ ومنها: تحريم اتخاذ الأنداد لله؛ لقوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً}؛ وهل الأنداد شرك أكبر، أو شرك أصغر؛ وهل هي شرك جلي، أو شرك خفي؛ هذا له تفصيل في علم التوحيد؛ خلاصته: إن اتخذ الأنداد في العبادة، أو جعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر؛ وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت".

١١. ومن فوائد الآية: أنه ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة؛ لقوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}، ولقوله تعالى في صدر الآية الأولى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: ٢١]؛ فإن قوله تعالى: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: ٢١] فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده؛ لأنه الخالق وحده.

القرآن

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣} [البقرة: ٢٣]

التفسير:

وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزعمون أنه ليس من عند الله، فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن، واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم، إن كنتم صادقين في دعواكم.

قوله تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: ٢٣]، " أي: وإِذا كنتم أيها الناس في شك وارتياب" (١).

والخطاب لمن جعل لله أنداداً؛ لأنه تعالى قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢٢].

و(الريب)، يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن "الريب" يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك؛ لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: "ريب"؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً، واضطراباً (٢).

قال ابن كثير: " وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: ٤٩] وقال في سورة سبحان: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨] وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: ١٣]، وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: ٣٧، ٣٨] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم [الله تعالى] (٤) بذلك - أيضًا - في المدينة، فقال في هذه الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ}، أي: في شكّ" (٣).

قوله تعالى: {مِمَّا نَزَّلْنَا} [البقرة: ٢٣]، "أي: من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه" (٤).

قال ابن عثيمين: " المراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم" (٥).

قوله تعالى: {عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: ٢٣]، أي: " على عبدنا ورسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (٦).

قال الحسن: "فهذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم" (٧).

وقوله تعالى {عَلَى عَبْدِنَا} فيه عظيم منزلة العبودية، إذ وصف الله تبارك وتعالى نبيه بهذا الوصف في مقام التحدي، فسمى المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة (٨):

إلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا ... وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ

المُعَبَّدُ: أي) المُذَلَّلُ)، يُقالُ: بَعِيرٌ مُعَبَّدٌ؛ أيْ: مُذَلَّلٌ قدْ طُلِيَ بالهِناءِ، وَبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ؛ أيْ: مُكْرَمٌ، وهوَ مِن الأَضْدَاد.

قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا (٩):

يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي

لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي.

وقد وصف الله نبيه بالعبودية في أعلى المقامات:

١ - في مقام التحدي: كما في هذه الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣)} [البقرة: ٢٣].

٢ - وفي مقام الإسراء والمعراج: قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١].

٣ - وفي مقام الإيحاء: قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ١٠].

٤ - وفي مقام الدعوة: قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: ١٩].

وقد قال تعالى عن المسيح ابن مريم: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: ٥٩]، وقال - صلى الله عليه وسلم - "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" (١٠).

قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: ٢٣]، "أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان" (١١).

قال قتادة: " يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب" (١٢).

قال الفراء: " (الهاء)، كناية عن القرآن، فأتوا بسورة من مثل القرآن" (١٣).

واختلف في قوله تعالى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣]، على قولين:


(١) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(٢) أنظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٨١.
(٣) تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٩.
(٤) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(٥) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٨١.
(٦) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (٢٣٦): ص ١/ ٥٣.
(٨) ديوان طرفة بن العبد، دار صادر ودار بيروت، بيروت، ١٩٦١ ص ٣١ ـ ٣٣.وانظر: شرح المعلقات السبع، لزوزني، ١٤٠٥ هـ، ٥٩. وهذا البيت لطرفة بن العبد البكري، من معلقته المشهورة التي مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
(٩) لم أتعرف على القائل، والبيتين وردا في: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، طبعة ١٩٩٧: ٢/ ١٩٢.
(١٠) رواه البخاري (أحاديث الأنبياء / ٣١٨٩)، والحديث يدل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته.
(١١) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(١٢) أخرجه الطبري (٤٩١)، (٣٩٢): ص ١/ ٣٧٣ - ٢٧٤.
(١٣) معاني القرآن: ١/ ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>