للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: يعني من مثل هذا القرآن، وهذا قول مجاهد (١) وقتادة (٢)، واختاره الطبري (٣)، وابن كثير (٤)، ودليلهم على ذلك قوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: ١٣] وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: ٨٨].

والثاني: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله (٥).

والقول الراجح هو الأول، لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم (٦).

قال أبو الهيثم: والسورة من سور القرآن عندنا: قطعة من القرآن، سبق وُحْدانُها جَمْعَها، كما أن الغرفة سابقة للغرف، وأنزل الله القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء، وجعله مفصلاً، وبيّن كل سورة بخاتمتها وبادئتها، وميزها من التي تليها" (٧).

قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: ٢٣]، أي: وادعوا "الذين تشهدون لهم بالألوهية، وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثله" (٨).

قال الصابوني: " أي: وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن" (٩).

قال ابن عثيمين: " وهذا غاية ما يكون من التحدي: أن يتحدى العابدَ والمعبودَ أن يأتوا بسورة مثله" (١٠).

قا أبو علي الجرجاني: معنى (ادعوا): استعينوا" (١١).

قال الواحدي: " (الشهداء): جمع شهيد والشهيد يجوز أن يكون بمعنى: مشاهد كالجليس والشريب والأكيل والشريك، ويجوز أن يكون بمعنى: شاهد كالعليم والعالم، والقدير القادر، ويجوز أن يكون بمعنى: مشهود فعيل بمعنى مفعول، والشهود: الحضور، ومنه قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: ١٨٥] أي حضر، والمشاهد للشيء: الحاضر عنده، وسمي الشاهد شاهداً: لأنه يخبر عما شاهد" (١٢).

واختلفوا في {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٣]، على أقوال:

أحدها: يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، وهذا قول ابن عباس (١٣).

قيل: "سمى أعوانهم شهداء، لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة، وهذا القول اختيار أبي إسحاق (١٤) " (١٥).

كما أن (الدعاء) على هذا القول بمعنى: الاستعانة، والعرب كثيراً ما تستعمل (الدعاء) في معنى الاستعانة، وذلك أن الإنسان إذا إستعان بغيره دعاه، فلما كان في الاستعانة يحتاج إلى الدعاء، سمى الاستعانة دعاء.

من ذلك قول الشاعر (١٦):

دَعَوْتُ بني قَيْس إليَّ فَشَمَّرَتْ ... خَنَاذِيذُ مِنْ سَعْدٍ طِوَالُ السَّواعِدِ

أي استعنت بهم. ألا تراه يقول: فَشَمَّرَتْ.

وقالت امرأة من طيء (١٧):

دَعَا دَعْوَةً يَوْمَ الشَّرى يَالَ مَالِكٍ ... ومَنْ لا يُجِبْ عِنْدَ الحَفِيظَة يُكْلَمِ أي استعان بهم فلم ينصروه (١٨).

والثاني: ناساً يشهدون لكم، وهو قول مجاهد (١٩).

والثالث: شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثلُه، مثل القرآن، وهو قول ابن جُريج (٢٠).

والرابع: آلهتكم، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تشهد لهم (٢١)، وهذا قول الفراء (٢٢)، وأبو مالك (٢٣)، وابن قتيبة (٢٤).

قال الواحدي: "والدعاء هاهنا بمعنى الاستغاثة والاستعانة قريب من السواء، وعلى هذا (شهيد) بمعنى مشهود، وآلهتهم كانت مشهودة لهم، لأنهم كانوا يشهدونها ويحضرونها" (٢٥).

والراجح هو القول الأول: أي شُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم (٢٦).

قوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٣]، "أي: مما سوى الله" (٢٧).

قال الصابوني: أي: "غير الله سبحانه" (٢٨).

قال البيضاوي: " والمعنى وَادْعُوا للمعارضة من حضركم، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله" (٢٩).


(١) أخرجه الطبري (٤٩٣)، و (٣٩٤)، و (٣٩٥): ص ١/ ٣٧٤.
(٢) أخرجه الطبري (٤٩١)، (٣٩٢): ص ١/ ٣٧٣ - ٢٧٤.
(٣) انظر: تفسير الطبري: ١/ ٣٧٤.
(٤) أنظر: تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٩.
(٥) أنظر: تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٩. وقال الماوردي: " فأتوا بسورة من مثل محمد- صلى الله عليه وسلم- من البشر، لأن محمداً بشر مثلهم". [النكت والعيون: ٨٣].
(٦) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٩.
(٧) "تهذيب اللغة" (سار) ٢/ ١٥٩٤، "اللسان" (سور) ٤/ ٢١٤٨.
(٨) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٨٢.
(٩) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(١٠) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٨٢.
(١١) نقلا عن: التفسير البسيط: ٢/ ٢٥١. وأبو علي الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وكتابه مفقود.
(١٢) التفسير البسيط: ٢/ ٢٤٣، وانظر: "تهذيب اللغة" (شهد) ٢/ ١٩٤٢. "معجم مقاييس اللغة" (شهد) ٣/ ٢٢١. "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي: ص ١٣٢. "مفردات الراغب" ص ٢٦٨. "اللسان" (شهد) ٤/ ٢٣٤٨.
(١٣) أنظر: تفسير الطبري (٤٩٦): ص ١/ ٣٧٦.
(١٤) أنظر: معاني القرآن" للزجاج ١/ ٦٦.
(١٥) التفسير البسيط: ٢/ ٢٤٤. وانظر: "تفسير ابن عطية" ١/ ٢٠٣، (غريب القرآن) لابن قتيبة: ١/ ٢٦، "زاد المسير" ١/ ٥١.
(١٦) ورد البيت في "ديوان الحماسة" بشرح المرزوقي، وعزاه لبعض بنى فقعس ٢/ ٤٩٨، وورد في "البيان والتبيين"، وقال: قال القيسي، ٢/ ١١، وفي "الحيوان" وقال: قول بعض القيسيين من قيس بن ثعلبة ١/ ١٣٤، ومعنى البيت: يقول استغثت بهؤلاء القوم، فهب رجال لنصرتي كأنهم فحول، و (الخناذيذ): الكرام من الخيل، استعارها للكرام من الرجال.
(١٧) ورد البيت في "ديوان الحماسة" بشرح المرزوقي ١/ ٢١١، "معجم ما استعجم من البلدان" ٣/ ٧٨٥، "معجم البلدان" ٣/ ٣٣٠، وكلهم نسبوه لامرأة من طيئ. قيل: هي بنت بهدل بن قرفة الطائي، أحد لصوص العرب في زمن عبد الملك بن مروان. و (الشرى): مكان وقعت فيه الوقعة المذكورة، و (الحفيظة) الخصلة التي يحفظ الإنسان عندها أي يغضب. و (يكلم): يقتل أو يغلب.
(١٨) أنظر: التفسير البسيط: ٢/ ٢٤٤ - ٢٤٥، وانظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ٥٧ أ، وأبي الليث في "تفسيره" ١/ ١٠٢. "القرطبي" في "تفسيره" ١/ ٢٠٠. "زاد المسير" ١/ ٥٠.
(١٩) أنظر: تفسير الطبري (٤٩٧)، (٤٩٨)، و (٤٩٩): ص ١/ ٣٧٦.
(٢٠) أنظر: تفسير الطبري (٥٠٠): ص ١/ ٣٧٧.
(٢١) أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم.
(٢٢) أنظر: معاني القرآن: ١/ ١٩. قال الفراء: "يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين".
(٢٣) انظر: تفسيرابن كثير: ١/ ١٩٩.
(٢٤) أنظر: غريب القرآن: ٢٦.
(٢٥) التفسير البسيط: ٢/ ٢٤٦.
(٢٦) تفسير الطبري: ١/ ٣٧٧ - ٣٧٩، وانظر: تفسيرابن كثير: ١/ ١٩٩، قال الطبري: "وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له، لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهلَ نفاق بين ذلك، فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين، فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن؟ ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [سورة الإسراء: ٨٨]، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: ١٣]، وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: ٣٧، ٣٨] وكل هذه الآيات مكية، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣)} [البقرة: ٢٣]، يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة من مثله، وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ، ويَصحَّ عندكم أنه تنزيلي وَوحيي إلى عبدي". [تفسيره: ١/ ٣٧٧ - ٣٧٩].
(٢٧) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٨٢.
(٢٨) صفوة التفاسير: ١/ ٣٥.
(٢٩) تفسير البيضاوي: ١/ ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>