للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم أحد؛ ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم، ويخدمهم؛ الوِلدان تطوف عليهم بأكواب، وأباريق، وكأس من معين؛ ثم هم لا يحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها؛ بل الأمر فيها كما قال الله تعالى: {وجنى الجنتين دان} [الرحمن: ٥٤]، وقال تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة: ٢٣]؛ حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة، فيحسّ أنه يشتهيها، فيدنو منه الغصن حتى يأخذها؛ ولا تستغرب هذا؛ فنحن في الدنيا نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سلطة محسوسة؛ وما في الآخرة أبلغ، وأبلغ.

٨ ومن فوائد الآية: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد؛ لا يمكن أن تفنى، ولا يمكن أن يفنى من فيها؛ وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة.

القرآن

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦)} [البقرة: ٢٦]

التفسير:

إن الله لا يمنعه الحياء من أن يضرب مثلا كان بعوضة أم أدنى منها، لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق، والله لا يستحيي من الحق، فأما الذين آمنوا فيتفهمونها، ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة، فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، الخارجين عن طاعة الله، وما يضل به إلا المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.

اختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال (١):

أحدها: قال ابن عباس: "لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا}، وقوله: {أو كصيِّب من السماء}، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: {إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً}، إلى قوله: {أولئك همُ الخاسرُون} ". قاله ابن عباس (٢)، وابن مسعود (٣).

والثاني: وقال قتادة: "لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" (٤). ونقل الواحدي عن الحسن (٥) مثل ذلك.

والثالث: وقال الربيع: " هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعتْ، فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: ٤٤] " (٦).

والرابع: أخرج الواحدي "عن ابن عباس في قوله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا} قال: وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وإن يسلبهم الذباب شيئا} وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت


(١) انظر: أسباب النزول للواحدي: ٢٣ - ٢٤، والعجاب في بيان الأسباب: ١/ ٢٤٥ - ٢٤٦، وتفسير ابن كثير: ١/ ١٠٦ - ٢٠٧.
(٢) انظر: تفسير الطبري (٥٥٤): ص ١/ ٣٩٩.
(٣) انظر: تفسير الطبري (٥٥٤): ص ١/ ٣٩٩.
(٤) أخرجه الطبري (٥٥٨): ص ١/ ٤٠٠، وانظر (٥٥٦): ص ١/ ٣٩٩ - ٤٠٠.
(٥) انظر: أسباب النزول للواحدي: ٢٣، قال الواحدي: "وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتاب وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله. فأنزل الله هذه الآية". وانظر: تفسير عبد الرزاق (١/ ٦٤).
(٦) أخرجه الطبري (٥٥٥): ص ١/ ٣٩٩. وفي رواية أخرى عنه بنحوه، " إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (٢)، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: ٤٤] ". [تفسير الطبري: (٥٥٦): ص ١/ ٣٩٩].

<<  <  ج: ص:  >  >>