للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية" (١).

والقول الأول هو الأقرب إلى الصواب، قال الماوردي، "وتأويل الربيع أحسن، والأولُ أشبَهُ" (٢).

وقد اختار القول الأول، الإمام الطبري (٣)، "لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور" (٤).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة: ٢٦]، "أي إن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيُّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيرا" (٥).

وقوله: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: ٢٦]، فهو أن يبيِّن ويصف، كما قال جل ثناؤه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [سورة الروم: ٢٨]، بمعنى وصف لكم (٦)، وكما قال الكُمَيْت (٧):

وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ ... لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا

بمعنى: وصف أخماس.

و(المثَل): الشبه، يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله، كما يقال: شبَهُه وشِبْهه، ومنه قول كعب بن زهير (٨):

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلا الأَبَاطِيلُ

يعني شَبَهًا.

قوله تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: ٢٦]، " أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها" (٩).

واختلف في قوله تعالى {فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: ٢٦] على أوجه (١٠):

أحدها: دونها في الصغر، والقلة والحقارة (١١):


(١) أخرجه الواحدي في أسباب النزول: ٢٣، وهذا إسناد ضعيف جدا لضعف عبد الغني بن سعيد - وفي نسخة أحمد صقر: عبد العزيز بن سعيد - (لباب النقول: ٩) وموسى بن عبد الرحمن (ميزان الاعتدال: ٤/ ٢١١) وعنعنة ابن جريج وهو ثقة يدلس (تهذيب التهذيب: ٦/ ٤٠٤، ٤٠٥) لكن معناه صحيح، وهو أصح مما قبله، فقد أخرج ابن جرير (١/ ١٣٨) وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد (فتح القدير: ١/ ٥٨) عن قتادة بإسناد صحيح قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله الآية، وهذا مرسل أصح من المسند ويشهد له:
١ - ما أخرجه ابن جرير أيضا (١/ ١٣٨) من طريق آخر عن قتادة نحوه بإسناد صحيح.
٢ - ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه (لباب النقول: ١٩).
(٢) النكت والعيون: ١/ ٨٨.
(٣) أنظر: تفسيره: ١/ ٤٠٠.
(٤) تفسير الطبري: ١/ ٤٠٠.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ٣٨.
(٦) انظر تفسير الطبري: ١/ ٤٠٣.
(٧) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا، على أنه مثل اجتلبه. وأصله: أن شيخًا كان في إبله، ومعه أولاده رحالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم. فقال لهم ذات يوم: " ارعوا إبلكم ربعا " (بكسر فسكون: وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا، وترد في اليوم الرابع)، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم. فقالوا: لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون: أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم. فقالوا: لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس). ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس، ما همتكم رعيها، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول: وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرَاهُ، ... لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا
فصار قولهم: " ضرب أخماس لأسداس " مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره.
وحقيقة قوله " ضرب: بمعنى وصف "، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد، يسوقها إليه لتسلكه. فقولهم: ضرب له مثلا، أي ساقه إليه، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق. وهذا بين.
(٨) ديوانه: ٨، وفي المخطوطة: " وما مواعيده "، وعرقوب - فيما يزعمون -: هو عرقوب ابن نصر، رجل من العمالقة، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام. وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة، كما هو معروف في قصته.
(٩) صفوة التفاسير: ١/ ٣٨.
(١٠) انظر: تفسير الطبري: ١/ ٤٠٥ - ٤٠٦. وتفسير ابن كثير: ١/ ٢٠٧.
(١١) ذهب إلى أن فوق بمعنى دون في الآية هنا: أبو عبيدة في المجاز: ١/ ٣٥، واليزيدي في غريب القرآن وتفسيره: ٦٦، ونسبه القرطبي في تفسيره: ١/ ٢٤٣، وأبو حيان في البحر المحيط: ١/ ١٢٣، وابن كثير في تفسيره: ١/ ٨٥، وغيرهم للكسائي، ورجحه مكي في المشكل: ٨٨، ومال إليه ابن كثير في تفسيره: ١/ ٨٥، ورجحه الرازي في مفاتيح الغيب: ٢/ ١٤٨ ونسبه لأكثر المحققين. ومن حججهم: أ-أن الغرض المقصود من التمثيل هنا هو الصغر لأن من نزلت بسببهم الآية-وهم اليهود أو المنافقون أو المشركون على خلاف في روايات سبب النزول-لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر ويطرح قالوا: إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فأنزل الله-عز وجل-هذه الآية رداً عليهم. انظر في سبب النزول: تفسير عبد الرزاق: ١/ ٤١، تفسير ابن أبي حاتم: ١/ ٩٣، أسباب النزول للواحدي-تحقيق الحميدان-: ٢٣، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ١/ ٨٤، البحر المحيط لأبي حيان: ١/ ١٢٠ وغيرها. ب-أن هناك ما هو أصغر من البعوضة، ومن ذلك جناحها الذي ضرب به النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا. وانظر في سوق الحجج لهذا القول: مفاتيح الغيب للرازي: ٢/ ١٤٨، النكت والعيون للماوردي: ١/ ٨٨، البحر المحيط لأبي حيان: ١/ ١٢٣، لباب التأويل للخازن: ١/ ٣٣، إرشاد العقل السليم لأبي السعود: ١/ ٧٣ وغيرها. وذهب آخرون إلى أن فوق في الآية بمعنى أعظم. ومنهم: ابن عباس وقتادة وابن جريج، انظر: زاد المسير لابن الجوزي: ١/ ٥٥، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ١/ ٢٤٣، والنكت والعيون للماوردي: ١/ ٨٨. واختار ذلك قطرب فيما نسبه إليه ابن الأنباري في الأضداد: ١/ ٢٥٠، والفراء في معاني القرآن: ١/ ٢٠، والطبري في جامع البيان: ١/ ٤٠٥، والواحدي في الوجيز: ١/ ٩٧، وأبو حيان في البحر المحيط: ١/ ١٢٣، والنهر الماد-بحاشية البحر المحيط-: ١/ ١٢٠، والسمين الحلبي في الدر المصون: ١/ ١٦٥، والغرناطي في التسهيل لعلوم التنزيل: ١/ ٧٧. وحجتهم جريان فوق في هذا القول على مشهور ما استقر في اللغة. وقال آخرون: بأن فوق في الآية تدل على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر منها، ولذا كان اختياره في هذه الآية دون لفظ أقل أو دون أو أقوى، ولا يتأتى هذا القول إلا على قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على جميع معانيه الجائزة في الآية. انظر: البحر المحيط لأبي حيان: ١/ ١٢٣ وهو اختيار ابن عاشور في التحرير والتنوير: ١/ ٣٦٢. وقد عده ابن الأنباري في الأضداد: ٢٥٠ - ٢٥١ من الأضداد، وقال عن رد قطرب لقول من قال إن فوق في الآية بمعنى دون: ورده هذا عندي غلط. وذكر كثير من المفسرين القولين في فوق من دون ترجيح. انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: ١/ ١٥٤، ومعالم التنزيل للبغوي: ١/ ٧٧، وبحر العلوم للسمرقندي: ١/ ١٠٤، والنكت والعيون للماوردي: ١/ ٨٨، والكشاف للزمخشري: ١/ ٢٦٥، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ١/ ٢٤٣، وإرشاد العقل السليم للبيضاوي: ١/ ٧٣، وأنوار التنزيل للبيضاوي: ١/ ٤٠، وروح المعاني للألوسي: ١/ ٢٠٧، وغيرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>