للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت، وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة، قال الرازي: وأكثر المحققين، وفي الحديث: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" (١).

وهذا قولٌ فيه نظر، وخلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.

والثاني: {فَمَا فَوْقَهَا}: فما هو أكبر منها:

لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، وهذا قول قتادة بن دعامة واختاره ابن جرير (٢).

اختاره الطبري، فقال: "وأما تأويل قوله {فَمَا فَوْقَهَا}: فما هو أعظم منها - عندي - لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف، وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة" (٣).

والثالث: وقيل فما فوقها أي: الحشرة التي تعيش فوق البعوضة:

اكتشف العلم الحديث أن فوق ظهر البعوضة تعيش حشرة صغيرة جداً لا تفرى الا بالعين المجهرية وقالوا أن هذا مصداق لقوله تعالى: {انَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيي أَن يَضْربَ مَثَلاً مَّا بَعوضَةً فمَا فوْقَهَا}.

وقصر الآية على ما ظهر من الاكتشافات الحديثة مزلق وقع فيه البعض تحت اسم (الإعجاز العلمي)، وهذا الرأي فيه نظر، لأن قصر المراد بالفوقية على هذه الحشرة التي لم يظهر أمرها إلا في هذا العصر - لو صحَّ التفسير بها - فيه تجهيل للأمة بدأً بالصحابة وختمًا بعلماء هذا العصر، وهو يستلزم أن يكون في القرآن ما لم يُعلم معنها، ولا أُدرك المراد منه إلا في هذا العصر، وذلك أمر باطل بلا ريب.

وإن قيل إن هذه الحشرة تدخل في عموم قوله (فما فوقها) أي في الصِّغَرِ، لجاز، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين آمَنُوا} [البقرة: ٢٦]، أي: " فأما الذين صدّقوا الله ورسوله" (٤).


(١) رواه الترمذي في السنن برقم (٢٣٢٠) من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه به مرفوعا، وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٤٠٥ - ٤٠٦.
(٣) تفسير الطبري: ١/ ٤٠٥ - ٤٠٦.
(٤) تفسير الطبري: ١/ ٤٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>