للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن خلال التعريفات السابقة: ندرك عموم مصطلح الفسق، فهو في الأصل – أعمّ من الكفر - (١) حيث يشمل الكفر وما دونه من المعاصي، ولكن خصّه العرف بمرتكب الكبيرة، ولذا يقول الراغب الأصفهاني: " والفسق يقع بالقليل من الذنوب والكثير، ولكن تعورف فيما كان كثيراً" (٢). وسوف نفصل القول فيه في الفوائد.

الفوائد:

١ من فوائد الآية: إثبات الحياء لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما).

ووجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفراً" (٣)؛ والحياء الثابت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله.

٢ ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمور المعقولة؛ انظر إلى قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: ٤١]؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولا مطر، ولا رياح {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} [العنكبوت: ٤١]؛ وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} [الرعد: ١٤]: إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصل الماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهم المعنى؛ وإما لحكمتها، وبيان وجه هذا المثل.

٣ ومن فوائد الآية: أن البعوضة من أحقر المخلوقات؛ لقوله تعالى: {بعوضة فما فوقها}؛ ومع كونها من أحقر المخلوقات فإنها تقض مضاجع الجبابرة؛ وربما تهلك: لو سُلطت على الإنسان لأهلكته وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة.

٤ ومنها: رحمة الله تعالى بعباده حيث يقرر لهم المعاني المعقولة بضرب الأمثال المحسوسة لتتقرر المعاني في عقولهم.

٥ ومنها: أن القياس حجة؛ لأن كل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على ثبوت القياس.

٦ ومنها: فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزل الله عزّ وجلّ بعقله؛ لقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}، ولا يعترضون، ولا يقولون: لِم؟ ، ولا: كيف؟ ؛ يقولون: سمعنا، وأطعنا، وصدقنا؛ لأنهم يؤمنون بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر.

٧ ومنها: إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: {من ربهم}؛ واعلم أن ربوبية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: عامة؛ وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، وتقتضي التصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له، وتقتضي عناية خاصة؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} [الأعراف: ١٢١، ١٢٢]: فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى، وهارون؛ كما أن مقابل ذلك "العبودية" تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: ٩٣]؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: ١]؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمر الكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبودية العامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة، والخاصة.

٨ ومن فوائد الآية: أن ديدن الكافرين الاعتراض على حكم الله، وعلى حكمة الله؛ لقوله تعالى: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا}؛ وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار؛ فمثلاً لو قال قائل: لماذا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل، ولا ينتقض بأكل لحم الخنزير إذا جاز أكله للضرورة مع أن الخنزير خبيث نجس؟

فالجواب: أن هذا اعتراض على حكم الله عزّ وجلّ؛ وهو دليل على نقص الإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ. إلا أن يقول ذلك على سبيل الاسترشاد، والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به.

٩ ومن فوائد الآية: أن لفظ الكثير لا يدل على الأكثر؛ لقوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}؛ فلو أخذنا بظاهر الآية لكان الضالون، والمهتدون سواءً؛ وليس كذلك؛ لأن بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف ضالون؛ وواحد من الألف مهتدٍ؛ فكلمة: {كثيراً} لا تعني الأكثر؛ وعلى هذا لو قال إنسان: عندي لك دراهم كثيرة، وأعطاه ثلاثة لم يلزمه غيرها؛ لأن "كثير" يطلق على القليل، وعلى الأكثر.

١٠ ومن فوائد الآية: أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين}؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} [الصف: ٥].

١١ ومنها: الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله. لا علاقة لإرادة الله تعالى به؛ لقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين}.

١٢. وتجدر الإشارة بأن الفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: ١٩ - ٢٥] (٤).

والفسق له عدة أقسام باعتبارات مختلفة، فهو ينقسم إلى:

أولا: - فسق يخرج عن الإسلام، والثاني: - وفسق لا يخرج عن الإسلام

قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: " كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، ومسرف، وظالم، وفاسق، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذّنب " (٥).

وقد روي عن ابن عباس وطاووس وعطاء وغير واحد من أهل العلم، قالوا: "كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق " (٦).

قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: " والفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقًا، والفاسق من المسلمين فاسقًا" (٧).

وها هنا أمر مهمّ لا بد من التنويه به، وهو أن الإيمان لما كان شعباً متعدّدة كما أخبر الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان (٨)، فإن ما يقابله ويضاده كذلك، فالكفر شعب ومراتب، فمنه


(١) انظر: تفسير ابن كثير (١/ ٦٣)، ومفردات الراغب ص (٥٧٢)، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي (٢/ ٧٢)، والكليّات للكفوي ص: (٦٩٣).
(٢) المفردات ص (٥٧٢).
(٣) أخرجه أبو داود ص ١٣٣٣، كتاب الوتر، باب ٢٣: الدعاء، حديث رقم ١٤٨٨؛ وأخرجه الترمذي ص ٢٠١٨، كتاب الدعوات، باب ١٠٤: "إن الله حيي كريم ... "، حديث رقم ٣٥٥٦؛ وأخرجه ابن ماجة ٢٧٠٧، كتاب الدعاء، باب ١٣: رفع اليدين في الدعاء، حديث رقم ٣٨٦٥؛ وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٢٥١، باب رفع اليدين في الصلاة، حديث رقم ٣٢٥٠، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح [١/ ٤٠٩، حديث رقم ١٤٨٨].
(٤) تفسير ابن كثير: ١/ ٢١٠.
(٥) انظر: تفسير ابن جرير (١/ ١٤٢)، والدرر المنثور للسيوطي (١/ ١٠٥).
(٦) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الإيمان.
(٧) تعظيم قدر الصلاة (٢/ ٥٢٦).
(٨) وهو قوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .. )) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ح (٩). ومسلم، كتاب الإيمان ح (٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>