للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يُخرج من الملّة، ومنه كفر دون كفر، وكذا النفاق، والشرك، والفسق، والظلم، وهذا أصل عظيم تميّز به أهل السنة عن المبتدعة من الوعيدية والمرجئة (١).

وفسق الكفر قد يكون اعتقادياً، وقد يكون عمليّاً، ومثال الاعتقادي: فسق المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: " قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [التوبة: ٥٣]، فقوله: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [التوبة: ٥٣]، تعليل لعدم قبول نفقاتهم (٢)، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: ٦٧].

قال الشوكاني: " وهذا الترتيب يُفيد أنهم هم الكاملون في الفسق" (٣).

ومثال الفسق العملي المخرج عن الملة: فسق إبليس، إذ قال الله تعالى – عزّ وجلّ -: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: ٥٠].

ففسق إبليس إنما كان بتركه للسجود، وامتناعه عن اتباع أمر ربه – عزّ وجلَّ – وهذا التّرك يعدّ فعلاً وعملاً – كما هو مقرّر في كتب الأصول - (٤).

وفسق الكفر هو المذكور في غالب آيات القرآن الكريم، وكما قال ابن الوزير: " قد ورد في السمع ما يدل على أن الفاسق في زمان النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلق على الكافر كثيرًا، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: ٦٧]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: ٩٩]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: ٢٠]، وذكر آيات كثيرة ثم قال: " فهذه الآيات دالة على أن الفاسق في العرف الأول يطلق على الكافر، ويسبق إلى الفهم " (٥).

وننبه إلى ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة، ومخالفيهم، وفيما يأتي بعض التنبيهات على ذلك:

١ - إن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته (٦)، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة (٧).

يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ " ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ١٧٨]، وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [٩] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: ٩، ١٠].


(١) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص (٥٣ - ٥٨).
(٢) انظر: فتح القدير للشوكاني (٢/ ٣٦٩).
(٣) فتح القدير (٢/ ٣٧٩).
(٤) انظر: روضة الناظر لابن قدامة ص (٥٤)، وإرشاد الفحول للشوكاني ص (٥٢). والقواعد الأصولية لابن اللحام ص (٦٢)، ويقول الشوكاني في تفسيره (٢/ ١٥٨): " وإطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً ".
(٥) العواصم والقواصم (٢/ ١٦٠ - ١٦١) باختصار، وانظر إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص (٤٥١)، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا (١/ ٢٣٨).
(٦) هذا بالنسبة للحكم العام المطلق، فنطلق القول بنصوص الوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (١٠/ ٣٣٢)، (٤/ ٤٨٤)، (٢٨/ ٤٩٩).
(٧) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (٤/ ٤٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>