للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن قتيبة: "وراء: تكون بمعنى (خلف)، وبمعنى (قدّام)، ومنها (المواراة) و (التواري)، فكل ما غاب عن عينيك فهو (وراء)، كان قدّامك أو خلفك" (١).

وفي صدد شرحه لكلمة (وراء) في القرآن الكريم في مواضع مختلفة، فسّر الإمام ابن قتيبة الكلمة بحسب السياق الذي وردت فيه، فمثلا: في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩]، رجح ابن قتيبة أن تكون (وراء) -هنا- بمعنى (أمام)، وفي قراءة ابن عباس: وفي قوله تعالى: {مِنْ وَرَاءِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: ١٠]: أي أمامهم، وكذا في قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: ١٧].

فالكلمة (وراء) في الآيات السابقة جاءت بمعنى (أمام)، وليس بالمعنى المتبادر إلى الذهن، وهو معنى (خلف)، وقد اختلف تفسير الكلمة على وجهين:

أحدهما: أنها مشتقة من التواري، أي: الإستتار، قال الإمام الشوكاني: " قال النحاس: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: ١٧] فقوله تعالى: "روَمِنْ وَرَاءِهِ} أي: من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى، أي: استتر، فصارت جهنم من وراءئه، لأنها لا ترى" (٢).

والثاني: أنها على بابها، فهي-هنا- بمعنى: (خلف)، قال ابن عطية: {مِنْ وَرَاءِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: ١٠] فقوله تعالى: " (وَرَاءِهِمْ) هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعي بها الزمان، وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو: الأمام، والذي يأتي بعده هو: الوراء، وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي .. " (٣).

وهكذا فقد لوحظ كيف تردد المفسرين بين المعنيين، غير جازمين بأحد الوجهين، ولعل السبب هو أن مثل هذه الظاهرة يحصل فيها الأشكال، فهي محتاجة إلى مزيد من الدلالئل المحيطة بالنص لترجيح إحدى هذه الدلالات على الأخرى.

يتبيّن لنا مما سبق بأن كلمة (وراء) جاءت في القرآن على عدة معاني من أشهرها ثلاثة:

الأول: (وراء) بمعنى: (أمام) زمانياً ومكانياً:

فمن أمثلتها بمعنى (أمام) زمانياً قول الله جل وعلا: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: ١٠٠] , وقوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: ١٧]، يعنى هذا بمستقبل أيامه فحياة البرزخ والعذاب المتوعد به أهل النار لم يأتِ بعد, وإنما هو أمام المتوعد به.

وأما (وراء) بمعنى (أمام) مكانياً الآية التي بين يديك يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] فقوله تعالى: {وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} يعني أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصبا, فأول معاني (وراء) في القرآن بمعنى: أمام.

الثاني: وتأتي بمعنى (خلف)، وهو الأصل في استخدامها اللغوي:

قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: ٩٢]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} نص بأنها تأتي بمعنى (خلف).


(١) تأويل مشكل القرآن: ١٤٥. وانظر: الأضداد: ٥٦ - ٥٧.
(٢) تفسير الشوكاني: ٤/ ١٣٦.
(٣) نقلا عن القرطبي في تفسيره: ١١/ ٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>