للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا

فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك.

قال الزجاج: "وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول، وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى، المضي لقوله {من قبل}، ودليل ذلك قوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ}، فقوله: {فلم تَقتلون}، بمنزلة " فلم قتلتم" (١).

قال ابن عطية: " وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر، ألا ترى أن حاضري محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء" (٢).

قلت: إن التغبير عن الفعل الماضي بالمستقبل، جائز في كلام العرب، وذلك فيما كان بمنزلة الصفة، كما قال جل ثناؤه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... } [البقرة: ١٠٢]، أي: ما تلت، وكما قال الشاعر (٣):

ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني

فقوله: (ولقد أمر) أي: ولقد مررت، واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله: (فمضيت عنه)، ولم يقل: (فأمضي عنه).

ومنه قول الشاعر (٤):

وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى ... من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد

يعني بذلك: ما يكون في غد، ومنه قول الحطيئة (٥):

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر


(١) معاني القرآن: ١/ ١٧٥.
(٢) المحرر الوجيز: ١/ ١٧٩.
(٣) البيت لرجل من بني سلول، انظر: سيبويه ١: ٤١٦، الخزانة ١: ١٧٣، وشرح شواهد المغني: ١٠٧ وغيرها كثير. وروايتهم جميعا " ثمت قلت ". وبعده بيت آخر:
غضبان ممتلئا علي إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني
(٤) البيت لطرمح بن حكيم الطائي، انظر: ديوانه: ١٤٦، وحماسة البحتري: ١٠٩، واللسان (كون) وقد كان في هذا الموضع " بشكرى "، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على الصواب. وروى اللسان: " واستنجاز ما كان ". وصواب الرواية: " فإني لآتيكم " فإنه قبله:
من كان لا يأتيك إلا لحاجة ... يروح بها فيما يروح ويغتدى
فإني لآتيكم. . . . ... . . . ........
(٥) ديوانه: ٨٥، ونسب قريش: ١٣٨، والاستيعاب: ٦٠٤، وأنساب الأشراف ٥: ٣٢، وسمط اللآلئ: ٦٧٤. قالها الحطيئة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء. استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر
فنزعت، مكذوبا عليك، ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر
قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها من غير قول الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم؟ ثملا ولا يدري
ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا ... مرت صلاتهم على العشر
وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: ١٩٦) قال: "قال الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة: "اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من عقلاء الرجال وأشرافهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>