للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعني: يشهد، وكما قال الآخر (١):

فما أضحي ولا أمسيت إلا ... أراني منكم في كَوَّفان

فقال: أضحي، ثم قال: (ولا أمسيت).

قال السعدي: " رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: {وَهُوَ الْحَقُّ} فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات، والأوامر والنواهي، وهو من عند ربهم، فالكفر به بعد ذلك كفر بالله، وكفر بالحق الذي أنزله.

ثم قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه، فلم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟

وأيضا، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب، قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته، ثم يأتي هو لبينته وحجته، فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن، كفرا بما في أيديهم ونقضا له.

ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: {قُلْ} لهم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين" (٢).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: {آمنوا بما أنزل الله}؛ لأن ما أنزل الله هو القرآن. وهو كلام؛ والكلام ليس عيناً قائمة بذاتها؛ بل هو صفة في غيره؛ فإذا كان صفة في غيره، وهو نازل من عند الله لزم أن يكون كلام الله عزّ وجلّ ..

٢ ومنها: علوّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كان القرآن كلامه، وهو نازل من عنده دلَّ على علوّ المتكلم به

٣ ومنها: كذب اليهود في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا}؛ لأنهم لو آمنوا به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ... } [الأعراف: ١٥٧] إلخ ..

٤ ومنها: عتوّ اليهود، وعنادهم؛ لأنهم يقولون: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا ..

٥ ومنها: أن من دُعي إلى الحق من هذه الأمة، وقال: "المذهب كذا، وكذا". يعني ولا أرجع عنه ففيه شبه من اليهود. لأن الواجب إذا دعيت إلى الحق أن تقول: "سمعنا وأطعنا"؛ ولا تعارضه بأي قول كان، أو مذهب ..

٦ ومنها: وجوب قبول الحق من كل من جاء به.

٧ ومنها: إفحام الخصم بإقامة الحجة عليه من فعله؛ ووجه ذلك أن الله أقام على اليهود الحجة على فعلهم؛ لأنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا وهم قد قتلوا أنبياء الله الذين جاءوا بالكتاب إليهم؛ فإن قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} ليس بحق؛ لأنه لو كانوا مؤمنين حقيقة ما قتلوا الأنبياء؛ ولهذا قال تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}.

٩. ومنها: أن القرآن حدثنا عن محاولات اليهود لقتل الأنبياء في مواضع كثيرة (٣) بحيث انك لو جمعت الآيات التي تحدثت عن هذه القضية، لاستبان لك: أن قتل الأنبياء، والغدر بهم، كان هدفا يهوديا خالصا،


(١) لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي: ١٨٧. والكوفان (بتشديد الواو): الاختلاط والشدة والعناء. يقال: إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط.
(٢) تفسير السعدي: ٥٩.
(٣) لقد اقتضت حكمة الله في سنته الجارية على خلقه أن يكون الأنبياء والرسل أئمة للناس في الخير والابتلاء، بل هم أعظم ابتلاء إذ الابتلاء على قدر الإيمان، لذا جرت سنن الله في إخراج الأنبياء والرسل إما تسليطاً من الكفار والأعداء عليهم، وإما هجرة يؤمرون بها من قبل الله، وإما سياحة في الأرض تفكراً في خلق الله، وما جرى للرسل والأنبياء جرى لاتباعهم من حملة الرسالات والدعوات.

<<  <  ج: ص:  >  >>