للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الراجز (١):

السمع والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني تميم

قوله: (السمع)، قبول ما يسمع، و (الطاعة) لما يؤمر، فكذلك معنى قوله: (واسمعوا)، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به (٢).

واختلف المفسرون في قوله تعالى {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: ٩٣]، على وجهين (٣):

أحدهما: أنه صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا. وهذا قول الجمهور (٤).

قال الرازي: " الأكثرون من المفسرين (٥) اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول" (٦).

والثاني: إنّهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نسب ذلك عنهم إلى القول أتساعا، ومنه قول الشاعر (٧):

ومَنْهَلٍ ذِبَّانُه في غَيْطَلِ ... يَقُلْنَ للرائدِ أعْشَبْتَ انْزِلِ

أي أنهم فعلوا فعلا قام مقام القول، فيكون مجازا، ومن ذلك قول الشاعر (٨):

امْتَلأَ الحَوْضُ وَقالَ قَطْنِي ... مَهْلا رُوَيْدا قَدْ مَلأْتَ بَطْني

وقال امرؤ القيس (٩):

نواعِمُ يُتْبعنَ الهوى سُبُلَ الردَى ... يقلن لأهل الحِلم ضُلًّا بَتْضلال

قالوا: المعنى: يُضللن ذا الحلم، وليس الغرض حكاية قولهن (١٠).

قال أبو مسلم: "وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى: {أن يقول له كن فيكون} [البقرة: ١٧٧]، وكقوله: {قالتا أتينا طائعين} [فصلت: ١١] " (١١).

والراجح هو القول الأول، لأن القول بالمجاز، هو صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل، وهذا لا يجوز. والله أعلم.

قال الرازي: " إن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم {سمعنا وعصينا} وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد" (١٢).


(١) قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة ٥٥، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري ٦: ١٦٧).
(٢) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٥٧.
(٣) انظر: تفسير القرطبي: ٢/ ٣١.
(٤) بنحوه عن ابن عباس كما في "البحر المحيط" ١/ ٣٠٨ واستحسنه أبو حيان قال: لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه اهـ. وحكى الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٦ أن المفسرين اتفقوا على أنهم قالوا (سمعنا) لما أطل الجبل فوقهم، فلمَّا كشف عنهم قالوا (عصينا).
(٥) وبه قال الإمام الطبري: " وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك". (تفسير الطبري: ٢/ ٢٥٧).
(٦) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٤.
(٧) البيت لأبي النجم العِجْلي. ينظر: "الحيوان" ٣/ ٣١٤ و ٧/ ٢٥٩، وذكر الشطر الآخر منه "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٤٨، "اللسان" ٥/ ٢٩٥١، "التاج" ٢/ ٢٣٣، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ٢٣٦ بلا نسبة. والغيطل: شجر ملتف أو عشب ملتف.
(٨) الرجز بلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٥٧، ٣٤؛ وأمالي المرتضى ٢/ ٣٠٩؛ وتخليص الشواهد ص ١١١؛ وجواهر الأدب ص ١٥١؛ والخصائص ١/ ٢٣؛ ورصف المباني ص ٣٦٢؛ وسمط اللآلي ص ٤٧٥؛ وشرح المفصل ١/ ٨٢، ٢/ ١٣١، ٣/ ١٢٥؛ وكتاب اللامات ص ١٤٠؛ ولسان العرب ٧/ ٣٨٢ "قطط"، ١٣/ ٣٤٤ "قطن"؛ ومجالس ثعلب ص ١٨٩؛ والمقاصد النحوية ١/ ٣٦١.
(٩) ديوانه: ١٢٦.
(١٠) انظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٦٠.
(١١) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٤.
(١٢) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>