للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والراجح-والله أعلم- هو القول الأول، وهو قول الجمهور، وأن قوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ}، من مجاز الحذف (١)، أي: أشربوا في قلوبهم حب العجل.

فيقال منه: أشرب قلب فلان حب كذا، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير (٢):

فصحوت عنها بعد حب داخل ... والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء

فالشاعر ترك ذكر (الحب) اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام، إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: ١٦٣]، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: ٨٢]، وكما قال طرفة بن العبد (٣):

ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا ... ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل

يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر (أسود)، عن ذكر (السم)، لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: سقيت أسود. ويروى:

ألا إنني سقيت أسود سالخا (٤)

وقد تقول العرب: " إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم "، فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر (٥):


(١) أي: حذف المضاف، انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام: ١١، وكتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي: ٢/ ١٠٥ - ١٠٦، وحذف المضاف هنا لدلالة الكلام عليه لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرب العجل على الحقيقة، انظر: تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي: ٧.
(٢) ديوانه: ٣٣٩، وهو هناك " تشربه " بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب " فؤادك "، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال: " تدخله " وقال: " تشربه " تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع " فؤادك ". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن.
(٣) ديوانه: ٣٤٣ (أشعار الستة الجاهليين)، ونوادر أبي زيد: ٨٣، واللسان (سود). واختلف فيما أراد بقوله: " أسود ". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: " يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود ". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل
ألا إنما أبكى ليوم لقيته ... بجرثم قاس، كل ما بعده جلل
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي - لا كذاب ولا علل
ألا إنني. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى: " ألا بجلى من الحياة "، وهي أجود. . ورواية الديوان واللسان: (ألا إنني شربت)، والتي هنا أجود. وقوله: " بجل "، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة. (تفسير الطبري: ٢/ ٣٥٩).
(٤) السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام.
(٥) البيت لهرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر. انظر: معاني القرآن للفراء ١: ٦١ - ٦٢، ، ومجالس ثعلب: ٧٦، واللسان (غزا)، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون:
جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد؟
ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>