وقد قسّمهم أهل العلم إلى قسمين: القسم الأول: من بلغته الدعوة، والقسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة، ويشمل القسم الأول نوعين: أولا: من بلغته الدعوة ووحّد ولم يشرك كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل. (انظر: البداية والنهاية ٢/ ٢٣٠ وفتح الباري ٧/ ١٤٧]. ثانيا: من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك كعمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجرّ قصبه في النار ". [رواه البخاري (٣٥٢١) ومسلم (٢٨٥٦)]. وقد جاء النص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن والديه في النار، روى مسلم (٢٠٣) أن رجلاً قال: "يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قضى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار". وفي شأن أمه قال عليه الصلاة والسلام: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ". [رواه مسلم (٩٧٦)]. يقول النووي رحمه الله – شارحاً الحديث الأول: " فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ". [شرح صحيح مسلم ٣/ ٧٩]. هذا وقد قال بعض أهل العلم منهم القرطبي، والحافظ جلال الدين السيوطي، القاضى أبو بكر ابن العربى أحد أئمة المالكية، والشيخ محمد بخيت، والدكتور محمد فؤاد شاكر، وآخرون، بأنهما ناجيان من النار. [أنظر: التذكرة للقرطبى ١٣ - ١٥، والدر المنثور للسيوطي: ٢/ ٢٩٤، ومسالك الحنفا، ضمن الحاوى، ٢/ ١٣١، وفتاوى الأزهر فى فتوى الشيخ محمد بخيت فى شأن أهل الفترة التى بتاريخ ربيع الأول ١٣٣٨ هجرية - ٢٥ نوفمبر ١٩١٩ م، ودراسات فى علوم القرآن والسنة لفضيلة الدكتور ص ١١٥ - ١١٩]. وقد ذكر الإمام السيوطي في رسالته السادسة (السبل الجلية فى الآباء العلية) بقوله: "إنى لم أدع أن المسألة إجماعية، بل هى مسألة ذات خلاف، غير أنى اخترت أقوال القائلين بالنجاة، لأنها أنسب بهذا المقام" [السبل الجلية، ضمن مجموعة رسائل الإمام الحافظ جلال الدين السيوطى، فى تحقيق نجاة أبوى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنهم من أهل الجنة فى الآخرة، تحقيق: حسين مخلوف: ص ١٩٠]. واحتجوا من وجوه: أحدها: أن المراد بالأب، عمه أبو طالب والعرب تطلق الأب على العم، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين: أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: ١٣٣]. وإسماعيل عمه قطعاً؛ فهو يعقوب بن سحاق بن إبراهيم. والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة، وهو قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ (إلى أن قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ([الأنعام: ٨٤ - ٨٦]. فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط، وهو عمه على ما وردت به الأخبار، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ (يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ (، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم. وعلى هذا القول: فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم، لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه، فقالصلى الله عليه وسلم: " ردوه علي " فلما رجع قال له: " إن أبي وأباك في النار". يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية , والعطف والدفاع عنه. وبذلك: إن التحقيق في أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم , ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم. [من كتاب مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجنكي الشنقيطي: ص ٤٠]. والثاني: احتجوا بأقوال أنكرها عامة أهل العلم، وحكموا بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة أو ضعيفة جداً. [انظر: الحاوي للفتاوى ٢/ ٢٠٢]. قلت: إن المسألة خلافية، وذلك لورود نصوص ظاهرها فيه شي من التعارض، كما أن هذه المسألة ليست من مسائل الاعتقاد ولا العمل، فلم ينشغل بها السلف، لكونها من فضول العلم، أريد أن أشير بأنه لا دليل ينص على أن كلمة (أبي)، تشير إلى والد الرسول (عبدالله) تحديدا، وذلك للاحتمالات المشار إليها، فالمسألة ظنية الدلالة، كما أن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى عريضة ولا يخفى ما فيها، وكلام السيوطي ليس بالقوي، من التكلف. وأختم كلامي بقول الإمام الصنعاني-رحمه الله-: " "إن مسألة إيمان أبوي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- من مسائل الفضول، لا يخوض فيها من هو بمهمات دينه مشغول". [جموع رسائل الصنعاني: رقم ٧]. والله تعالى أعلم.