الأَمْرُ بين أن يكون حَقيقَةً أو غَيْرَ حَقيقَة وجب أن يُحْمَلَ على الحَقيقَة، فهو إذن حَقيقَةٌ، ويؤَيِّده أيضًا قَوْله تعالى:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} فإن مِثْل هذا الترشيح يدُلُّ على أنَّه حَقيقَة وليس بمجازٍ، على أنَّنا نقولُ: إنَّه لا مجازَ في القُرْآن ولا في غَيْرِهِ كما سبق، ولكنْ مع هذا لا بَأْسَ أن ينتقل مِن نَفْيِ التَّساوي بين هذين البَحْرينِ ونَفْيِ التَّساوي بين كُلِّ شَيْئَيْنِ مُتغايِرَيْنِ؛ يعني: لا مانِعَ من أن ينتقل لانتفاءِ التَّساوي بين هَذَيْنِ المَخْصوصَيْنِ إلى انتفاءِ التَّساوي بين الأُمُور المعْقُولَةِ المَعْنَوِيَّة.
{وَمِنْ كُلٍّ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْله تعالى: {تَأْكُلُونَ} [{لَحْمًا طَرِيًّا} هو السَّمَك] الطَّرِيُّ معناه الذي لم يَتَغَيَّر بِنَتَنٍ، وهذا من خصائِصِ السَّمَك؛ أنَّه وإن مات فإنَّه طَرِيٌّ كما قال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}[المائدة: ٩٦] قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "صَيْدُه ما أُخِذَ حيًّا وطعامُه ما أُخِذ ميِّتًا"(١).
ثانيًا: من فوائد هذينِ البَحْرينِ [{وَتَسْتَخْرِجُونَ} من المِلْح، وقيل: منهما {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وهي اللُّؤْلؤُ والمَرْجان] كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: ٢٢]، وقد اختلف النَّاسُ: هل هذا لا يخرج إلا من المالِح أو يَخْرُج من المالِحِ والعَذْب؟
أكثر المُفَسِّرين على أنَّه لا يَخْرُج إلا من المالِح، وحملوا قَوْله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: ٢٢] على أنَّ المُرَادَ من مَجْموعِهِما لا من جَميعِهِما.
فَهُما إذا قلنا: عندنا بَحْران؛ عَذْب ومالِح، يَخْرُج منهما اللُّؤْلُؤ والمرجان،
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (١٠/ ٤١٥)، وابن جرير الطبري في تفسيره (٨/ ٧٢٣، ٧٢٧)، والبيهقي (٩/ ٢٥٥).