للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حليمًا غفورًا، ولولا حِلْمُه ومَغْفِرَتُه لزالت السَّمَواتُ والأَرْضُ وهَلَكَ من فيهما.

و(الحليمُ) اسمٌ من أَسْماء الله، ومعناه ذو الحِلْم، والحِلمُ هو تأخير العقوبة عن مُسْتَحِقِّها، تأخيرُ عُقُوبةٍ وليس تركَ عقوبةٍ؛ لأنَّ تَركَ العُقُوبَة عَفْوٌ، ولكنَّ تأخيرَ العُقُوبَة عن المُسيءِ يُسَمَّى هذا حِلْمًا؛ قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ:

فَهُوَ الحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ... بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيانِ (١)

فبِحِلْمِه عَزَّ وَجَلَّ تتأَخَّرُ العقوبات؛ لعلَّ النَّاس يتوبون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَقَوْله تعالى: {غَفُورًا} هذا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويمحو أَثَرَهُ بالكُلِّيَّة، وسبق لنا: أنَّ المَغْفِرَة هي سِتْرُ الذَّنْب والتَّجاوُزُ عنه؛ وذلك لأنَّها مَأْخوذَةٌ من المِغْفَر الذي يُغَطِّي الرأس ويَقيهِ السِّهامَ، وليست - كما قيل - مُجَرَّدَ السِّتْرِ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ السِّتْرِ لا تَحْصُلُ به الوِقايَة، بل لا بُدَّ مع السِّتْر من الوِقايَةِ.

ويدل لهذا المَعْنى قَوْلُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَبْدِه إذا خلا به وقَرَّرَهُ بِذُنوبِهِ يقول: "كُنْتُ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" (٢)؛ فإنَّ هذا يدلُّ على أنَّ السِّتْرَ غَيْرُ المَغْفِرَة، وأنَّ المَغْفِرَة لا بُدَّ فيها مِنْ عَدَمِ المُؤاخِذَةِ وعَدَمِ العُقُوبَةِ.

[من فوائد الآية الكريمة]

الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ قُدْرَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ على إِمْساكِ السَّمَواتِ والأَرْضِ فهذه الأَجْرامُ العَظيمَة أَمْسَكَها الله تعالى بقُدْرَته بدون معاناةٍ وبدون تَعَبٍ وإنَّما يقولُ


(١) النونية (ص ٢٠٧).
(٢) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، رقم (٢٤٤١)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل، رقم (٢٧٦٨)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

<<  <   >  >>