للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان ذلك دليلًا على كمالِ سُرُورِهِم وأنَّه سرورٌ لا يُشابُ بِحَزَنٍ أبدًا بخلاف سرورِ الدُّنْيا؛ فإنَّ سرور الدُّنْيا مهما عَظُمَ مَشُوبٌ بالكَدَرِ ولهذا يقول الشَّاعِرُ الحكيمُ:

لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ... لَذَّاتُهُ بادِّكَارِ المَوْتِ والهَرَمِ (١)

فالإِنْسَانُ مهما كان في الدُّنْيا من النَّعِيم، فإنَّه إذا تذَكَّرَ أنَّ أمامه شَيْئَيْنِ لا بُدَّ منهما؛ لا بُدَّ من أَحَدِهِما قطعًا، فإن طالَتْ به الحياة فلا بُدَّ من الأَمْرَيْنِ جَميعًا، وهو الهَرَمُ والمَوْتُ، وحينئذٍ تَتَنَغَّصُ عليه حياتُه، وهو حينئذٍ يَعْرِفُ أنَّه كُلُّ يومٍ يَمْضي عليه فإنَّه يُبْعِدُه من الدُّنْيا ويُقَرِّبُه من الآخِرَة، وهذا تنغيصٌ آخَرَ؛ ولهذا قال الشاعر:

والمَرْءُ يَفْرَحُ بِالأَيَّامِ يَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ (٢)

على كُلِّ حالٍ: في الآخِرَة نعيمٌ لا كَدَرَ فيه؛ لِقَوْله تعالى: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن نعيمَ الآخِرَة يُؤْسِي كلَّ ما سبقه من حَزَنٍ؛ لِقَوْله تعالى: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وذَهَابُ الحَزَنِ هنا ذَهَابٌ لمِا قد وُجِدَ، ولما يُتَوَقَّعُ وُجُوده فلا يُمْكِن أن يَمَسَّه فيها حَزَنٌ.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إِثْباتُ اسْمَيْنِ من أَسْماء الله وهما: الغفور والشكور، فالغَفور في جانب المعاصي، والشَّكور في جانِبِ الطَّاعاتِ، أمَّا في المعاصي فإنَّه عَزَّ وَجَلَّ قال في الحديث القُدُسِيِّ: "يا ابْنَ آدمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي


(١) غير منسوب، وانظره في: أوضح المسالك (١/ ٢٣٩)، شرح ابن عقيل (١/ ٢٧٤)، همع الهوامع (١/ ٤٢٨).
(٢) ذكره الأصمعي في قصة له مع أعرابي، انظر: نثر الدر في المحاضرات (٦/ ٣٧)، وزهر الآداب (٢/ ٤٥٦). وقريب منه بيت أبي العتاهية:
تظلّ تفرح بالأيام تقطعها ... وكلّ يوم مضى يدني من الأجل
انظر: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (٢/ ٣٩٦).

<<  <   >  >>