للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم إذا تناهَى حالُه، وبَلغ منَ الحظ في العلم إلى مكانٍ عليٍّ، انثال (١) عليه الطلبة للعلوم، وأقبل إليه المُستفتُونَ في أمرِ الدين، واحتاجَ إليه ملوكُ الدنيا فضلًا عن غيرهم؛ فيكون عند هذا عيشُه حلوًا مَحضًا، وعُمرُه مغمورًا باللذات النفسانية والجُسمانية، ويرتفعُ أمرُه عن هذه الدرجة ارتفاعًا لا يُقادَرُ قَدْرُه إذا تَصوَّر ما له عند اللَّه من عظيم المنزلة، وعَلِيِّ الرُّتبة، وعظيمِ الجزاءِ الذي هو المقصود أولًا وبالذات من علوم الدين.

وكنتُ في أوائل أيام طلبي للعلم في سنِّ البلوغ أو بعدها بقليل، تصورتُ ما ذكرتُه هنا فقلت:

فلا داعٍ لديَّ ولا مجيبُ … سددتُ الأُذنَ عَنْ داعي التَّصابي

لِمَجْدِ الشَّيبِ فلْيَهُنِ المَشيبُ (٢) … وأنفقتُ الشَّبيبةَ غيرَ وانٍ

وقلت أيضًا في هذا المعنى:

وشوقًا لانتشاقي منه رِيْحَا (٣) … وأُبدي رغبةً لنُجُودِ نَجْدٍ

وأضحَى بين أهليهِ طريْحَا … وما بسِوى العقيقِ أقام قلبي

وأما كونُ الرذائلِ حُلوةَ الأوائل مُرَّةَ العواقب، فصِدقُ هذا غيرُ خافٍ على ذي لُب؛ فإن مَنْ أرسل عِنانَ شبابه في البطالات، وحلَّ رِباطَ نفسه فأجراها في ميادينِ اللذات، أدرك منَ اللذة الجُسمانيةِ مِنْ ذلك بحسب ما يُتفق له


(١) انثال: تسارع.
(٢) وانٍ: متكاسل.
(٣) النُّجُود: المرتفعات. الانتشاق: الشم.

<<  <   >  >>