للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من التقصير بجانب الحق، والتعظيمِ لجانب الباطل؛ فلولا أن هؤلاء النفرَ لديه أعظمُ من الرب سبحانه، لَمَا مال إلى هواهم، وترك ما يعلم أنه مرادُ اللَّهِ سبحانه ومَطلَبُه من عباده! وكفاك بِهذه الفاقرةِ العظيمة، والداهية الجسيمة؛ فإن رجلًا يكون عنده فردٌ من أفراد عبادِ اللَّهِ أعظمَ قدرًا من اللَّهِ سبحانه، ليس بعد تجرُّئِهِ على اللَّه شيءٌ. أرشدنا اللَّهُ إلى الحق بحَوله وطَوْله.

ومن غريب ما أحكيه لك من تأثير هوى الملوك، والميلِ إلى ما يوافق ما يَنفُقُ عندهم: واقعةٌ معي مشاهَدةٌ لي وإن كانت الوقائع في هذا الباب لا يأتي عليها الحصر، وهى مودَعةٌ بطونَ الدفاتر، معروفةٌ عند من له خبرةٌ بأحوالِ مَنْ تقدَّم؛ وذلك أنه عَقد خليفةُ العصر حفظه اللَّهُ مجلسًا جَمَعَ فيه وُزراءَه، وأكابرَ أولاده، وكثيرًا من خواصِّه، وحضر هذا المجلسَ من أهل العلم ثلاثةٌ أنا أحدهم، وكان عقدُ هذا المجلس لطلب المشورة في فتنةٍ حدثت بسبب بعض الملوك، ووصولِ جيوشه إلى بعض الأقطار الإمامية (١)، وتخاذُلِ كثيرٍ من الرعايا، واضطرابِهم، وارتجافِ (٢) اليمَن بأسره بذلك السبب.

فأشرتُ على الخليفة بأنَّ أعظم ما يُتوصَّلُ به إلى دفع هذه النازلةِ هو العدلُ في الرعية (٣)، والاقتصارُ في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرعُ،


(١) أي: التابعة لإمام العصر.
(٢) ارتِجاف: اضطراب.
(٣) قال شيخُ الإسلام ابن تيمية : «أمورُ الناس تستقيمُ في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراكُ في أنواع الإثم أكثرُ مما تستقيمُ مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن اللَّهَ يُقيمُ الدولةَ العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيمُ الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدومُ مع العدل والكفر، ولا تدومُ مع الظلم والإسلام. وقد قال النبيُّ : «ليس ذنبٌ أسرعُ عقوبةً منَ البغي وقطيعةِ الرحِم» [صحيح]، فالباغي يُصرع في الدنيا وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة؛ وذلك أن العدلَ نظامُ كل شيء؛ فإذا أُقيم أمرُ الدنيا بعدلٍ قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة مِنْ خَلاق، ومتى لم تقُم بعدلٍ لم تقُم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة» انتهى. «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ١٤٦).

<<  <   >  >>