للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمَن كان على هذه الصفةِ وبِهذه المنزلة، لا يأتي إرشادُه إلى تعلُّم علوم الاجتهاد بفائدة، وأحسنُ ما يستعملُه معه مَنْ يريد تقليلَ تعصُّبِه، ودفعَ بعضِ ما قد تغيَّرت به فطرتُه: هو أن ينظرَ العالِمُ مَنْ عَمِلَ بذلك الدليلِ الذي هو الحق من قدماء المقلَّدين، فيُذكِّرُهم أنه قد خالَف إمامَهم في تلك المسألة فلانٌ وفلانٌ ممن هو في طبقته أو أعلى طبقةً منه، وليس هو بالحقِّ أولى من المخالِفين له، فإن قَبِل ذهنُهم هذا فقد انفتح بابُ العلاج للطبيب؛ لأنه ينتقلُ معهم من ذلك إلى ما استَدلَّ به إمامُهم، وما استَدلَّ به مَنْ خالفه، ويَنتقلُ منه إلى وجوهِ الترجيح؛ مبتدئًا بما هو أقربُ إلى قبولِ فَهْمِ ذلك العليل (١).

ثم ينقُلُه من مرتبةٍ إلى مرتبة، حتى يستعمل منَ الدواء ما يُقلِّلُ تلك العِلَّة؛ فإنه إذا أدرك العليلُ ذهابَ شيءٍ منها حَصَل له بعضُ نشاطٍ يَحملُه على قبول ما يَذهبُ بالبقية.

ولكنْ ما أقلَّ مَنْ يقبل شيئًا من هذه الأدوية! فإنه قد ارتكز في ذِهن غالبِ هؤلاء أن الصحةَ والسلامةَ لهم هي في نفس العِلَّةِ التي قد تمكَّنت من أذهانِهم، فسَرَت إلى قلوبهم وعقولهم، وأُشربوا مِنْ حُبِّها زيادةً على ما يجدُه الصحيحُ عن العِلَّةِ مِنْ محبةِ ما هو فيه من الصحَّة والعافية (٢).

وسبب ذلك: أنهم اعتقدوا أن إمامَهم الذي قلَّدوه ليس في علماءِ الأمة


(١) يعني المقلِّد. وفي بعض المطبوعات: «التعليل»، وكلاهما وجيه.
(٢) معنى الفقرة: أن هؤلاء المُقلِّدةَ المتعصبةَ قد اقتنعوا تمامًا أن سلامتَهم وفلاحهم إنما هو في التعصُّب لإمامهم الذي يقلِّدونه، وعدم الالتفات إلى قولِ أيِّ أحدٍ سواه؛ إذ قد تشرَّبت قلوبُهم هذا التعصبَ الذميم، وصاروا يحبُّونه محبةً أعظمَ من محبةِ المُعافَى للصحة والعافية التي معه.

<<  <   >  >>