التي ذكرنا، فضمُّوا إلى شُنعةِ التقليد شُنعةً أخرى هي أشنعُ منها، وإلى بدعةِ التعصب بدعةً أخرى هي أفظع منها! ولو كان لهم أقلُّ حظٍّ من علم، وأحقرُ نصيبٍ مِنْ فَهْم، لم يَخْفَ عليهم أن هذه الكتبَ لم يَقصِدْ مصنِّفُوها إلَّا جَمْعَ ما بَلَغ إليهم من السُّنة بحسب ما بلغت إليه مقدرتُهم، وانتهى إليه علمُهم، ولم يتعصَّبوا فيها لمذهب، ولا اقتَصروا فيها على ما يُطابقُ بعض المذاهب دون بعض؛ بل جَمعوا سُنةَ رسول اللَّه ﷺ لأمَّته؛ ليأخذَ كلُّ عالِمٍ منها بقَدْرِ عِلمه، وبحسب استعداده.
ومَن لم يفهم هذا فهو بَهيمةٌ لا يَستحقُّ أن يُخاطَبَ بما يُخاطَبُ به النوعُ الإنساني، وغايةُ ما ظَفِر به من الفائدة بمُعاداةِ كتب السنة: التسجيلُ على نفسه بأنه مبتدعٌ أشدَّ ابتداع؛ فإنَّ أهلَ البدع لم يُنكروا جميعَ السنة، ولا عادَوْا كُتبَها الموضوعةَ لجَمعها، بل حَقَّ عليهم اسم «البدعة» عند سائر المسلمين بمخالفة «بعض» مسائل الشرع.
فانظر أصلحك اللَّه إلى ما يَصنعُ الجهلُ بأهله، ويَبلغُ منهم، حتى يوقِعَهم في هذه الهُوَّة، فيعترفونَ على أنفسهم بما يَقشعِرُّ له جِلدُ الإسلام، وتبكى منه عيونُ أهله.
وليتَهم نزَّلوا كتبَ السُّنةِ منزلةَ فنٍّ من الفنون التي يَعتقدون أن أهلَه أعرفُ به من غيرهم وأعلمُ ممن سواهم؛ فإن هؤلاء المقلِّدةَ على اختلاف مذاهبهم وتبايُنِ نِحَلِهم إذا نظروا في مسألةٍ من مسائل النحو، بحثوا كتب النحاة، وأخذوا بأقوال أهلِه وأكابرِ أئمَّتِه كسيبويه والأخفش ونحوهِما، ولم يلتفِتوا إلى ما قاله مَنْ قلَّدوهم في تلك المسألة النحوية؛ لأنهم يعلمون أن لهذا الفنِّ أهلًا هم المرجوعُ إليهم فيه! فلو فرَضْنا أنه اختَلف أحدُ المؤلِّفين