للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بفنونِهم، وتنقيحَهم له، وتَهذيبَه، والبحثَ عن صحيحه وسقيمه، ومعرفةَ عِلله، والإحاطةَ بأحوال رواته، وإتعابَ أنفُسِهم في هذا الشأن ما لا يَتعبُه أحدٌ من أهل الفنون في فنونهم، حتى صار طالبُ الحديث في تلك العصور لا يكون طالبًا إلَّا بعد أن يرحل إلى أقطارٍ متباينةٍ، ويَسمعَ من شيوخٍ عِدَّة، ويعرفَ العاليَ والنازلَ، والصحيحَ وغيره؛ على وجهٍ لا يخفى عليه مَخرَجُ الحرفِ الواحد من الحديث الواحد فضلًا عن زيادةٍ على ذلك، وفيهم مَنْ يحفظُ مِئةَ ألف حديث، إلى خَمْسِمِئةِ ألف حديث، إلى ألفِ ألفِ حديث، هي عن ظهر قلبِه لا تخفى عليه منها خافيةٌ، ولا يَلتبسُ عليه فيها حرفٌ واحد! ومع هذا الحفظ والإتقان في المتون كذلك يحفظون ويُتقنون أسانيدها إلى حدٍّ لا يَخفى عليهم من أحوال الرواة شيءٌ، ولا يَلتبسُ عليهم ما كان فيه من خيرٍ وشر، وجرحٍ وتعديل، ويتركون مَنْ وجدوا في حِفظه أدنى ضعف، أو كان به أقلُّ تساهل، أو أحقرُ ما يُوجب الجرح.

وبالجملة، فمَن عرف الفنونَ وأهلَها معرفةً صحيحةً، لم يَبْقَ عنده شكٌّ أن اشتغالَ أهلِ الحديث بفنِّهم لا يُساويه اشتغالُ سائرِ أهل الفنون بفنونهم، ولا يقاربه؛ بل لا يُعدُّ بالنسبةِ إليه كثيرَ شيء؛ فإن طالب الحديثِ لا يكادُ يَبلغُ مِنْ هذا الفنِّ بعضَ ما يريدُه إلَّا بعد أن يُفنيَ صباهُ وشبابَه وكهولتَه وشيخوختَه فيه، ويُطوِّفَ الأقطار، ويستغرقَ بالسماع والكَتْبِ الليلَ والنهار. ونحن نجدُ الرجلَ يشتغلُ بفنٍّ من تلك الفنون العامَ والعامين والثلاثة، فيكون معدودًا من محقِّقي أهله ومُتقِنيهم؛ فما بالُكم أيُّها المقلدة إذا أردتم الرجوع إلى فنِّ «السنة»، لم تصنعوا فيه كما تصنعونه في غيره من الرجوع إلى أهل الفن، وعدمِ الاعتدادِ بغيرهم؟! وهل هذا منكم إلا التعصُّبُ البحتُ،

<<  <   >  >>