ومعنى قوله:"للأبد": جوازُ الاعتمار في أشهر الحج، والقِران فيها إلى يوم القيامة، وقد عارضها المجوِّزون للفسخ بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر نفساً من الصحابة، وروى عن هؤلاء الصحابة طوائفُ من كبار التابعين حتى صار منقولاً عنهم نقلًا يرفع الشك، ويوجب اليقين، ولا يمكن أحداً أن ينكره، أو يقول: لم يقع، وهو مذهب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب حجر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه، ومذهب أبي موسى الأشعري، ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل، وأهل الحديث معه، ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ومذهب أهل الظاهر.
وبالجملة: ليس في المقام متمسَّك بيد المانعين يُعتد به، ويصلح لنصبه في مقابلة هذه السنة المتواترة، وقد أبعدَ من قال إنها منسوخة؛ لأن دعوى النسخ تحتاج إلى نصوص صحيحة متأخرة عن هذه النصوص، وأما مجرد الدعوى، فأمرٌ لا يعجز عنه أحد، وإذا تقرر لك هذا، علمتَ أن هذه السنة عامة لجميع الأمة.
قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": وأفتى - صلى الله عليه وسلم - بجواز فسخهم الحجَّ إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتماً، ولم ينسخه شيء بعده، والذي ندين اللهَ به أن القولَ بوجوبه أقوى وأصحُّ من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال:"من لم يكن أهدى، فليهلَّ بالعمرة، ومن أهدى، فليهلَّ بحج مع عمرة"، وأما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة، ففعل القِران، وأمر بفعله مَنْ ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين، وقال في "الهدى النبوي" بعد أن ذكر حديث البراء، وغضبَه - صلى الله عليه وسلم - لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ: ونحن نشُهد الله علينا أن لو أحرمنا بحج، لرأينا فرضاً علينا فسَخه إلى عمرة؛ اتقاءً من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعاً لأمره، فوالله! ما نسخ هذا في حياته، ولا بعده، ولا صحَّ حرفٌ واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن يسأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه