إنما كان في وقت معلوم إلى مدة محصورة، ثم نسخ، قال أبو داود في "السنن": وكان ذلك -يعني: تحريم وج- قبل نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالطائف، وحصارِه ثقيفاً، انتهى. والظاهر من الحديث تأبيدُ التحريم، ومن ادعى النسخَ، فعليه الدليل؛ لأن الأصل عدمه، وأما ضمانُ صيده وشجره على حد ضمان الحرم المكي، فموقوف على ورود دليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولا ملازمة بين التحريم والضمان، انتهى كلامه.
[٣١ - فصل في التفاضل بين مكة والمدينة]
عن عبد الله بن عدي: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"والله! إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إليّ، ولولا أني أُخرجت، ما خرجت منك" رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه، وبذلك استدل من قال: إنها أفضل من المدينة. قال القاضي عياض: اختلفوا في أفضلهما، فقال أهل مكة، والكوفة، والشافعي، وابن وهب، وابن حبيب المالكيان: إن مكة أفضل، وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض أصحابه، ومالك، وأكثر المدنيين: إلى أن المدينة أفضل، واستدل الأولون بالحديث المذكور، وقد أخرجه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهما.
وقال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف، فلا ينبغي العدولُ عنه، وقد ادعى القاضي عياض الاتفاق على استثناء البقعة التي قُبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أنها أفضل البقاع.
قلت: ولم أقف على دليل يؤيد هذا الاتفاق، ولا أدري من أين أتوا به، وقد استدل القائلون بأفضلية المدينة بأدلة: منها: حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة" كما في البخاري وغيره، ومنها: حديث: "اللهم إنهم أخرجوني من أحبِّ البلاد إليّ، فأَسكني في أحبِّ البلاد إليك" أخرجه الحاكم في "المستدرك"، إلى غير ذلك. قال الشوكاني بعدما ذكر استدلال الفريقين بالبسط: اعلم أن الاستيعاب ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين، كالاشتغال ببيان الأفضل من القرآن الكريم والنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكلُّ من فضول الكلام