وأقطعُ بأَنَّ النِّتاجَ الفِكريّ لا يُقاسُ ازدهارُه بكثرةِ المؤلّفاتِ الَّتي تَتواردُ عَلى فكرةِ معيَّنةٍ تردّدها وتشرحُها وتُوسِّعُ الحديث حولها -وهو ما تَتَّسمُ به مؤلَّفاتُ ذلك العصرِ بوجهٍ عامٍّ-، وإِنَّما الشَّأنُ في قياسِه مردّهُ الابْتكارُ والعمقُ والدِّقةُ، وهو ما تَحقَّق في مؤلَّفاتٍ كثيرةِ سابقةٍ، أُلِّفت في عصورٍ مُطْمئنَّة آمنة؛ نجزمُ مُطْمئِنّين أنَّها تَفُوق بمراحَلَ نِتاج عصرِنا المُضْطرب.
ومعَ ذلك فلستُ أنكرُ فضلَ مؤلَّفاتِ عصرِ الكرمانيِّ وأثرها الفَاعل في الحِفاظِ عَلى مُقدَّراتِ الأُمَّة العِلميَّة، وما اتَّسمَت به من وفرةٍ مردُّها إيضاحُ الفكرةِ، وتقريرُ المعنى، وتأكيدُ المعلومةِ، كما أَنِّي لا أتجاهل همَّةَ عُلمائِه وصدقَ عزيمتِهم في الانْقطاع للتَّدريسِ ونشرِ العلم؛ وإن كُنت أَتساءلُ عن واقع حالِهم وطلّابِهم، وقد أَحاط ببلدِهم جيشٌ عَرَمْرَم أَوْ نَزَل بِسَاحتهم ثائرٌ أهوج!.
وإذا تقرَّر هذا فإِنَّ عواملَ عديدة شاركت في استمرارِ الحركةِ العلميَّة، وظهورِ كثيرٍ من المصنَّفات المخْتلفة في ذلك العَصْر؛ أَذْكُر منها عَلى وجهِ الإِيجازِ ما يلي:
١ - تَقْديرُ بعضِ السَّلاطين للعلم، وإِجلالهم لأَهله، والمبالغة في إِكْرامهم، وتَهْيئة الجوِّ العلميِّ لهم -أَحْيانًا-، ويُذْكرُ في محاسن هولاكو أنَّه كان يشجّع "العلماءَ والحكماءَ عَلى مواصلةِ البحثِ والدَّرسِ؛ إذ كان يُخصِّص لهم الرَّواتب، ويُغْدق عليهم الِهبات، ويُزيِّن مجلسَه بحضورِهم كَمَا أَنَّه كانَ شَغُوفًا بعلوم الحِكْمة والنُّجوم والكيمياء فلا غَرْو أَن كان يصرفُ بسخاءٍ في سبيلِ تقدُّم هذه العُلوم، وليس أَدلّ عَلى هذا