وأما القائلون بالكراهة: فلعلَّ أدلة المانعين لم تنهضْ للدلالة على التَّحريم والمنع، فحكموا بالكراهة.
[المسألة الثانية: الترجيح]
بعد النظر والتأمل في أدلَّة الأقوال والمناقشات، فإنه يبدو لي -والله أعلم- القَولُ بكراهة التَّورُّق كراهة تنزيهية للأسباب التالية:
١ - أن التَّورُّق فيه حَمْلُ المحتاجِ على شراء السِّلعة بأكثر من سعر يومها.
٢ - أن بعض المعاني التي لأجلها حرم الرِّبا موجودةٌ في التَّورُّق، حيث إن المُتَوَرِّق يتحملُ كثيرًا في ذمته ليحصلَ على نقد أقل منه، وهو بهذا يشابه الرِّبا، وقد سبق أن السلف كانوا يكرهون مشابهة صورة التعاقد المحرم، حيث كرهوا (ده دوازده) أي: أبيعك العشرة باثني عشر؛ لأنه يشابه الرِّبا، والسبب الذي جعلهم يكرهون هذه المشابهةَ هو أنها قد تؤولُ إلى مشابهةٍ حقيقية.
٣ - أن المُتَوَرِّق ينشأ عليه دين جَرَّاء عملية التَّورُّق، ومن مقاصد التَّشْريع في المعاملات المالية كراهة المدْيُونية، وشغل الذمة، حيث إن الدَّيْنَ تقييدٌ لحرية الإنسان في تصرفاته، ولذلك قيل:(رقّ الحرّ الدَّيْن) وعملية التَّورُّق تنشئ الدَّيْن على المحتاج، فيكره التَّورُّق من هذا الباب.
وقد يجوزُ بلا كراهة، ولكنه جواز يخضعُ لضوابط لا بُدَّ من وجودها حين التَّورُّق، وحين عدم وجود تلك الضَّوابط، فإنا نحكم بالكراهة، وقد تزدادُ الكراهة إلى حدِّ التَّحريم، وأما بيان تلك الضَّوابط فهي كالتالي:
١ - أن يكون المُتَوَرِّق محتاجًا للنقود، وبناء على هذا يكونُ التَّورُّقُ جائزًا كحالة استثنائية، فالمُحتاجُ لا يلجأ إلى التَّورُّق إلا حين عدم وجود من يقرضه، أو أنه يوجد ولكن يقرضه بالفائدة، ولذلك استدلَّ القائلون بالجواز بالحاجة الماسَّة إلى التَّورُّق؛ لأن الحاجةَ المعتبرةَ شرعًا تزيلُ الكراهةَ للشيء، فتجعله