للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ فِي التَّوْجِيهَيْنِ إِخْرَاجُ فَاعَلَ عَنِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الِاسْمَيْنِ شَرِيكَيْنِ فِي الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْفُوعًا وَالْآخَرُ مَنْصُوبًا.

وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ مِنْ بَلَاغَةِ الْمَعْنَى وَنَصَاعَةِ اللَّفْظِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَعَاطَى عِلْمَ الْبَيَانِ.

فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَجَعَلَ الْخَبَرَ فِعْلًا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ دَائِمًا، ثُمَّ أُضِيفَ الْأَوْلَادُ إِلَى الْوَالِدَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى شَفَقَتِهِنَّ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَهَزًّا لَهُنَّ وَحَثًّا عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَقَيَّدَ الْإِرْضَاعَ بِمُدَّةٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ. وَجَاءَ الْوَالِدَاتُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَأُضِيفَ الْأَوْلَادُ لِضَمِيرِ الْعَامِّ لِيَعُمَّ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ إِذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوْ أُضِيفَ إِلَى عَامٍّ، عَمَّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ) .

وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: أُبْرِزَتْ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ جَارًّا وَمَجْرُورًا بِلَفْظِ: عَلَى، الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَالْوُجُوبِ. فَأُكِّدَ بِذَلِكَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمَرْءِ مَنْعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِهْمَالَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ.

وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَجَاءَ الرِّزْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ، لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَالْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ.

وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ، وَأَتَى بِمَرْفُوعِهِ نَكِرَةً لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمَّ، وَيَتَنَاوَلُ أَوَّلًا مَا سِيقَ لِأَجْلِهِ: وَهُوَ حُكْمُ الْوَالِدَاتِ فِي الْإِرْضَاعِ، وَحُكْمُ الْمَوْلُودِ لَهُ فِي الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ اللَّذَيْنِ لِلْوَالِدَاتِ.

وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: كَالثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمَّ أَيْضًا، وَهِيَ كَالشَّرْحِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا لَمْ تُكَلَّفْ إِلَّا طَاقَتَهَا لَا يَقَعُ ضَرَرٌ لَا لِلْوَالِدَةِ وَلَا لِلْمَوْلُودِ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ بِخِلَافِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُمَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُخْرَى، وَمُخَصَّصَةٌ بِحُكْمٍ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُ النَّفْسِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَمُضَارَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقَتٍ، أَتَى بِالْجُمْلَتَيْنِ فِعْلِيَّتَيْنِ، أَدْخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفَ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ: لَا، الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِقْبَالِ غَالِبًا، وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: لَا تُضَارَّ، أَدْخَلَ حَرْفَ النَّهْيِ الْمُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّ الشَّفَقَةِ بِقَوْلِهِ: بِوَلَدِهَا، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهَا، وَبِقَوْلِهِ. بِوَلَدِهِ، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>