للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِقَوْلِهِ: بَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقِ: بِنَعَمْ، وَفِي غَيْرِ التَّصْدِيقِ: بِلَا، أَمَّا أَنْ يجاب: ببلى، فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أو لم تُؤْمِنْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ إِيمَانًا؟.

قُلْتُ: لِيُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الْجَلِيلَةِ لِلسَّامِعِينَ، وَ: بَلَى، إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، مَعْنَاهُ: بَلَى آمَنْتُ، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، لِيَزِيدَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً بِمُضَامَّةِ عِلْمِ الضَّرُورَةِ عَلَمُ الِاسْتِدْلَالِ. وَتَظَاهُرُ الْأَدِلَّةِ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَزْيَدُ لِلْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَأَرَادَ بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الْعِلْمَ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلتَّشْكِيكِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ عِلْمُ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ كَمَا قَالَ، بَلْ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ. أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ صَحِيحَةٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، كَعِلْمِنَا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَبِوَحْدَانِيَّةِ الْمُوجِدِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَطْمَئِنَّ، مَعْنَاهُ: لِيَسْكُنَ عَنْ فِكْرِهِ فِي الشَّيْءِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْفِكْرُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَنْ نُفَكِّرَ فِيهَا، بَلْ هِيَ فِكَرٌ فِيهَا عِبَرٌ، إِذْ حَرَّكَهُ إِلَى ذَلِكَ، إِمَّا أَمْرُ الدَّابَّةِ الْمَأْكُولَةِ، وَإِمَّا قَوْلُ النُّمْرُوذِ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ بَعْدَ لَكِنْ، التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ سَأَلْتُ مُشَاهَدَةَ الْكَيْفِيَّةِ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَيَقْتَضِي تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ آخَرَ قَبْلَ لَكِنْ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْرَاكُ، التَّقْدِيرُ: قَالَ: بَلَى أَيْ آمَنْتُ، وَمَا سَأَلْتُ عَنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.

وَرُوِيَ عَنِ: ابْنِ جُبَيْرٍ، وإبراهيم، وَقَتَادَةَ: لِيَزْدَادَ يَقِينًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا زِيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تُمْكِنُ إِلَّا السُّكُونُ عَنِ الْفِكْرِ، وَإِلَّا فَالْيَقِينُ لَا يَتَبَعَّضُ. انْتَهَى.

وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: حَنَّ الْخَلِيلُ إِلَى صُنْعِ خَلِيلِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قَوَّلَهُ الشَّوْقُ: أَرِنِي، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تَعَلَّلَ بِرُؤْيَةِ الصُّنْعِ لَهُ تَأَدُّبًا. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهُ قِيلَ: اسْتَجْلَبَ خِطَابًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ لَهُ الحق: أو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>