آمَنْتُ، وَلَكِنِ اشْتَقْتُ إِلَى قولك: أو لم تؤمن؟ فإني بقولك: أو لم تُؤْمِنْ؟ يَطَمَئِنُّ قَلْبِي وَالْمُحِبُّ أَبَدًا يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَجِدَ خِطَابَ حَبِيبِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ.
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لَمَّا سَأَلَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى أَجَابَهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ أَوَّلًا، فَأَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هِيَ مِنَ الطَّيْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا، وَمَا ذُكِرَ تَعْيِينُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ، أَيْ أَرْبَعَةً كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَا كَبِيرَ عِلْمٍ فِي ذِكْرِ التَّعْيِينِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ ابن عباس: أخذ طاووسا وَنَسْرًا وَدِيكًا وَغُرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَمَامَةً بَدَلَ النَّسْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُبَيْرَةَ عَنْهُ: أَخَذَ حَمَامَةً وَكُرْكِيًّا وديكا وطاووسا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ: أخذ طاووسا وَدِيكًا وَدَجَاجَةً سِنْدِيَّةً وَأَوِزَّةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ مَكَانُ الدَّجَاجَةِ السِّنْدِيَّةِ: الرَّأْلُ، وَهُوَ فَرْخُ النَّعَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَى لَيْثٌ: دِيكٌ وحمامة وبطة وطاووس. وَقَالَ: دِيكٌ وَحَمَامَةٌ وَبَطَّةٌ وَغُرَابٌ.
وَزَادَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَصْفًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ: دِيكٌ أَحْمَرُ، وَحَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَبَطَّةٌ خَضْرَاءُ، وَغُرَابٌ أَسْوَدُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: طاووس وَحَمَامَةٌ وَدِيكٌ وَهُدْهُدٌ، وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَكَانَ لَفْظُ الْمَوْتَى جَمْعًا، أُجِيبَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا مَدْلُولُهُ جَمْعٌ، لَا أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدًا.
قِيلَ: وَخَصَّ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ إِشَارَةً إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَكَانَتْ مِنَ الطَّيْرِ، قِيلَ لِأَنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ وَالِارْتِفَاعُ، وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ، فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَعْيِينِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا عُيِّنَ قِيلَ: خُصَّ الطَّاوُوسُ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الزِّينَةِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّعِ، وَالنَّسْرُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِالْأَكْلِ وَطُولِ الْأَمَلِ، وَالدِّيكُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِقَضَاءِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، وَالْغُرَابُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الْحَرْصِ وَالطَّلَبِ. وَمَا أَبْدَوْهُ فِي تَخْصِيصِ الْأَرْبَعَةِ وَفِي تَعْيِينِهَا لَا تَكَادُ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَلِفٌ، وَحِكْمَةُ اخْتِصَاصِ كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَغِيبَةٌ عَنَّا. أَلَا تَرَى خَرْقَ الْعَادَةِ لِمُوسَى فِي أَشْيَاءَ، وَلِعِيسَى فِي أَشْيَاءَ غَيْرِهَا، وَلِرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ فِي أَشْيَاءَ لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الطَّيْرِ، لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute