فِي الْمَثَلِ: إِنْ ذَهَبَ عِيرٌ فَعِيرٌ فِي الرِّبَاطِ. وَقَدَّرَهُ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ:
فَالَّذِي يُصِيبُهَا، أَوْ: فَمُصِيبُهَا طَلٌّ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَاعِلًا، أَيْ فَيُصِيبُهَا طَلٌّ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّقَادِيرِ سَائِغَةٌ. وَالْآخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا، وَإِبْقَاءِ مَعْمُولٍ لِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ مَتَى دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «١» أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ، فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُنَا أَيْ: فَهِيَ، أَيِ:
الْجَنَّةُ يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَأَمَّا فِي التَّقْدِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى حَذْفِ أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَنَظِيرُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ:
أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ، بِالْيَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَعُودُ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ مِنْ رِيَاءٍ وَإِخْلَاصٍ، وَفِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ لَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَشَبَّهَ فَاعِلَ ذَلِكَ بِالْمُنْفِقِ رِئَاءً، وَمَثَّلَ حَالَهُ بِالصَّفْوَانِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَ مَنْ أَنْفَقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا مَثَلٌ آخَرُ لِلْمُرَائِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
هُوَ مَثَلٌ لَلْمَانِّ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: لِلْمُفْرِطِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِمَنْ أُعْطِيَ الشَّبَابَ وَالْمَالَ، فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى سُلِبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ عَمِلَ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ كَجَنَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَخَتَمَهَا بِإِسَاءَةٍ كَإِعْصَارٍ، فَشَبَّهَ تَحَسُّرَهُ حِينَ لَا عَوْدَ، بِتَحَسُّرِ كَبِيرٍ هَلَكَتْ جَنَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، وَأَعْجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا، وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ، أَفْقَرُ مَا كَانَ إِلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ إِذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيدِ وَالنَّفْيِ، أَيْ: مَا يَوَدُّ أَحَدٌ ذلك؟ و: أحد، هُنَا لَيْسَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّفْيِ وشهبه، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَيَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩٥.