للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَذَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخَذَهَا.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَحَصُوراً مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّبَتُّلَ لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِالْعَكْسِ.

وَنَبِيًّا هَذَا الْوَصْفُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَوْصَافِ، فَذَكَرَ أولا الوصف الذي تبنى عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ بَعْدَهُ، وَهُوَ: التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ السِّيَادَةَ وَهِيَ الْوَصْفُ يَفُوقُ بِهِ قَوْمَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّهَادَةَ وَخُصُوصًا فِيمَا لَا يَكَادُ يُزْهَدُ فِيهِ وَذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا وَهِيَ: رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَشَابُهٌ مِنْ أَوْصَافِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَرْيَمُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَةِ، دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَهِبَ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى عَلَى وَفْقِ مَا طَلَبَ، فَالتَّصْدِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى، وَكَانَتْ مَرْيَمُ سَيِّدَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَصِّ الرَّسُولِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَكَانَ يَحْيَى سَيِّدًا، فَاشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ عَذْرَاءَ بَتُولًا لَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ وَكَانَ يَحْيَى لَا يَقْرُبُ النِّسَاءَ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ أَتَاهَا الْمَلَكُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحاورها عَنِ اللَّهِ بِمُحَاوَرَاتٍ حَتَّى زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً، وَكَانَ يَحْيَى نَبِيًّا، وَحَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ هُوَ أَنَّ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ.

مِنَ الصَّالِحِينَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ أَصْلَابِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَصَالِحًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «١» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ مِنْ صَالِحِي الْحَالِ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِذِكْرِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ صَلَاحَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمُ. انْتَهَى.

وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ حُصُولِ النُّبُوَّةِ لَهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «٢» قِيلَ: وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ قَدْرًا مِنَ الصَّلَاحِ لَوِ انْتَقَصَ لَانْتَفَتِ النُّبُوَّةُ، ثُمَّ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ نَصِيبًا مِنَ الصَّلَاحِ كَانَ أَعْلَى قَدْرًا.

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الصَّلَاحُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي غَيْرِهِمْ


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>